أذاعت قنوات وإذاعات عمومية جزائرية، مساء الجمعة، حلقة جديدة من ما تُسمى بـ« اللقاءات الدورية لرئيس الدولة مع وسائل الإعلام الوطنية« . وقد عكست وضعية تبون، المنحني والمترهل على كرسيه وساقاه مبعثرتان بشكل غير لائق، صورة دقيقة للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد. وضعية لا تليق برئيس دولة، لكنها تكشف الكثير عن واقع النظام في الجزائر.
خلافا للحوارات السابقة، بدا تبون هذه المرة في وضع دفاعي، بعد أن أربكته أسئلة بعض الصحفيين. وكانت أبرز لحظات اللقاء حين واجه الصحفي محمد عصماني، مدير الأخبار في قناة « النهار »، الرئيس بسؤال حاد في نهاية المقابلة. فعندما كرر تبون أن الجزائر « لن تحيد أبدًا عن مبادئها، مهما كانت الظروف الدولية »، رد عليه الصحفي بأن هذا التعنت وغياب البراغماتية هو ما يتسبب في تراجع الجزائر دبلوماسيا، خاصة في قضية الصحراء المغربية.
فوجئ تبون بجرأة السؤال، وحاول تحدي الصحفي بأن يذكر له مثالا على تلك النكسات. لكن الصحفي لم يلجأ إلى تكرار أمثلة معروفة كاعتراف الولايات المتحدة، وفرنسا، وإسبانيا، وبريطانيا، وعدد من الدول الإفريقية، وحتى حزب الرئيس الجنوب إفريقي السابق جاكوب زوما، بمغربية الصحراء. بل أجابه بنبرة واقعية بأن «العلاقات مع الجوار يجب أن تُبنى على البراغماتية، فهي حجر الزاوية في الدبلوماسية والعلاقات الدولية».
فرد تبون بنبرة تهديد خفي، متسائلا إن كان المطلوب «التخلي عن دعم البوليساريو والتحول إلى نظام إمبريالي؟»، مضيفا أن «الصحراء الغربية معترف بها من نصف أعضاء الاتحاد الإفريقي، ومن أكثر من 55 دولة في العالم».
واستمر تبون في أسلوب الترهيب، ملمحا إلى أنه فهم ما وراء سؤال الصحفي، الذي بحسبه ينطلق من فكرة أن دعم الجزائر للبوليساريو لم يجلب سوى العداءات، مشيرا ضمنيا إلى أن السؤال لم يكن من وحي الصحفي بل « أُملي عليه ».
وفي وقت سابق من اللقاء، تلقى الصحفي نفسه نظرة غاضبة من تبون عندما تجرأ وسأله عن طبيعة استثمار ماليزي تم الترويج له بقيمة 20 مليار دولار. فأجاب تبون، المتفاخر بالاتفاق، بإجابة ساذجة: « في مجال الصناعة! ».
أما الصحفي الثاني، رئيس تحرير إذاعة « إفريقيا إف إم »، فقد أثار بدوره ملاحظة تتكرر في العديد من وسائل الإعلام الدولية، وتفيد بأن الجزائر باتت دولة معزولة إقليميا ودوليا. وكالعادة، نفى تبون هذا الواقع، مرجعا إياه إلى «مناورات يومية» من خصوم الجزائر.
ورغم أن الأزمة مع فرنسا لم تُذكر صراحة، إلا أن تبون لم يفوّت فرصة مهاجمة النيجر، متهما إياها بـ« نكران الجميل » بعد أن دعمت الانقلابيين في مالي ضد الجزائر، معلنا سحب سفير بلاده من نيامي. وزعم أن الجزائر أفشلت عملية عسكرية كانت فرنسا تنوي شنّها لإعادة الرئيس محمد بازوم إلى السلطة.
وعند سؤاله عن الرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة على الجزائر بنسبة 30%، انحنى تبون تماما، واصفا الولايات المتحدة بـ« الدولة الصديقة« ، معترفا بأن دونالد ترامب كان يملك « الحق السيادي » في فرض ما يشاء من ضرائب.
افتتح تبون اللقاء بنبرة تفاؤلية متوقعة، إذ رد على سؤال حول الوضع العام في الجزائر بقوله إن « كل شيء على ما يرام في الجزائر أفضل البلدان ». وادعى أن برنامجه في الولاية الثانية يسير وفق خطة محددة على ثلاث مراحل: نهاية 2025، نهاية 2027، ونهاية ولايته في 2029. ووسط صراع الأجنحة في أعلى هرم السلطة، قد لا يُكمل ولايته، لكنه سارع إلى التفاخر بتحقيق 85% من أصل 13 ألف مشروع استثماري.
وباعتباره للشعب الجزائري كـ« أنبوب هضمي« ، أطلق تبون رقما آخر مثيرا: بناء مخزون استراتيجي من الحبوب يُقدر بـ90 مليون قنطار. أما الرقم الأكثر خيالا فكان زعمه أن القيمة الإجمالية للإنتاج الزراعي في الجزائر ستبلغ 38 مليار دولار سنة 2025.
ورغم أزمة الجفاف الحادة، وعد تبون بمضاعفة محطات تحلية مياه البحر من 5 إلى 10 محطات، متعهدا بأنه « لن يعطش أي جزائري بعد الآن »، وخصّ بالذكر سكان تيارت، الذين يُثير غضبهم المتكرر بشأن العطش قلق النظام في الجزائر.
إلا أن أحد الصحفيين ذكّره بواقع مقلق: في حال لم تتحسن أسعار النفط، فإن الجزائر قد تضطر، أو ربما بدأت فعليًا، في انتهاج سياسة تقشف، مما قد ينسف عددا من المشاريع الاجتماعية والاقتصادية.
لكن تبون تجاهل هذا التحذير، مؤكدا نجاحه في تنفيذ برنامج يهدف إلى إنهاء تبعية الجزائر للمحروقات. ورغم أن الاقتصاد الجزائري يعتمد بنسبة 96% على هذه الموارد، إلا أنه ادعى أن انخفاض أسعار النفط لن يؤدي إلى تقشف ولا إلى مديونية.
وللخروج من التبعية، يراهن تبون على الشركات الناشئة التي زعم أنها تضاعفت منذ ولايته الأولى، من 200 شركة في 2019 إلى 20 ألف شركة بحلول 2029.
ثم تابع بسلسلة من التصريحات المبالغ فيها، مؤكدًا أن الجزائر « رائدة في كل شيء »، قائلا: « نحن رواد الذكاء الاصطناعي في إفريقيا والمغرب العربي، خصوصا من خلال جيشنا »، كما ادعى أن الجزائر تسجل أعلى نسبة نمو (4%) في منطقة المتوسط. أما في الأمن، فقد ذهب أبعد، معلنا أن الجزائر ليست فقط «مدرسة» بل «أكبر جامعة في العالم في مجال مكافحة الإرهاب».
في النهاية، يظهر أن تبون يعيش في عالم موازٍ، وسيستمر في الترويج لسفينة الجزائر باعتبارها « الأجمل والأكثر أمانًا»، حتى ولو كان يراها تغرق.
لقد اعتاد الجزائريون على دردشات تبون الإعلامية. لكن هذه المرة، هناك أمران استثنائيان: أولًا، التدهور الجسدي الواضح للرئيس؛ وثانيًا، أن حتى أكثر الصحفيين تبعية لم يعد بإمكانهم تجاهل العزلة غير المسبوقة التي تعيشها الجزائر إقليميًا.








