لم يكن فوز الروائي الجزائري الفرنسي كمال داوود بجائزة « غونكور » الأدبية الفرنسية العريقة عن روايته « الحوريات » سوى بداية لسلسلة من الهجمات الممنهجة التي تستهدفه. إذ لم يترك النظام المتعجرف وسيلة ينغص بها فرحة صاحب الرواية بالجائزة إلا وجربها وبالغ في تضخيمها عن طريق أبواق الدعاية الموالية للنظام العسكري.
الرواية التي أزعجت النظام
رواية « الحوريات »، التي تسلط الضوء على مآسي العشرية السوداء في الجزائر، لم تلق الترحيب المتوقع من النظام الجزائري. فبدلا من الاحتفاء بفوز روائي جزائري بهذه الجائزة الرفيعة، شرع النظام في حملة ممنهجة لإثارة الجدل حول العمل، من خلال دفع إحدى ضحايا العشرية السوداء لمقاضاة كمال داوود بتهمة استغلال قصتها المأساوية في الرواية دون موافقتها، في خطوة تهدف إلى محاولة تشويه سمعته والالتفاف على النجاح الأدبي الذي حققه.
الفتاة التي تُدعى سعادة عربان، وهي إحدى الناجيات من العشرية السوداء، خرجت في تصريحات لقناة جزائرية مدعية أن قصتها الحقيقية استُغلت في الرواية دون موافقتها. وزعمت أن زوجة كمال داود، الطبيبة النفسية التي كانت تعالجها، أفشت أسرارها الطبية، وأن الرواية تتضمن تفاصيل تتطابق مع تجربتها المأساوية.
داوود يرد.. والنظام يضخم القضية
ردّ كمال داود وزوجته على هذه الادعاءات، مؤكدين أن الرواية هي عمل خيالي محض، وأنه لا توجد أية علاقة مباشرة بين القصة وشخصية سعادة عربان. لكن النظام الجزائري استغل هذه القضية ليحوّلها إلى ملف قضائي وإعلامي كبير، حيث كلف إحدى المحاميات المعروفة بمناصرتها للنظام العسكري، وهي فاطمة الزهراء بن براهم التي يقدمها الإعلام الجزائري كـ «محامية ومناضلة وباحثة في التاريخ»، من أجل رفع دعوى قضائية ضد الروائي كمال داوود نيابة عن المشتكية سعادة عربان.
وقد سارعت هاته المحامية إلى عقد ندوة صحفية يوم الخميس 21 نونبر رددت خلالها الكثير من الترهات بغية تسييس القضية، من قبيل حديثها عن « مؤامرة فرنسية » يقودها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عبر الضغط على كمال داوود لكتابة هذه الرواية بهدف الإساءة للجزائر، وفق زعمها.
وأعلنت المحامية عن رفع قضيتين بمحكمة وهران ضد داوود المقيم في فرنسا، الأولى باسم زهرة فليسي رئيسة جمعية ضحايا الإرهاب، والثانية باسم سعادة عربان.
وتزامنا مع ذلك، واصلت وسائل الإعلام الجزائرية شن هجوم لاذع ضد صاحب الرواية التي تفضح جرائم العشرية السوداء، واصفة « الحوريات » بأنها « محاولة لتشويه تاريخ الجزائر وتضليل الرأي العام ». حيث كتبت صحيفة « الخبر » على سبيل المثال: « إن داود يريدنا أن ننسى حربا استعمارية شنيعة على بلادنا دامت 132 سنة، لكنه يريد تسليط الضوء على العشرية السوداء ويسميها حرب أهلية رغم كونها ليست حربا أهلية لأنها كانت حرب ضد المؤسسة العسكرية وضد السلطة باستخدام الشعب كرهينة ».
توقيت يثير الشكوك
توقيت الهجوم على كمال داوود يثير تساؤلات عديدة، خاصة إذا علمنا أن المشتكية نفسها تسلمت نسخة من الرواية تحمل توقيع كاتبها إبان صدورها، فلماذا لم تتحرك من قبل؟ هل جاء هذا التصعيد لإخماد الزخم الذي حققته الرواية؟ أم أن الجلادون يخشون تداعيات تحويلها إلى فيلم سينمائي قد يُعيد تسليط الضوء على المجازر التي شهدتها الجزائر خلال العشرية السوداء؟
ما يزيد من تعقيد المشهد هو الخلفية السياسية لكمال داوود. إذ عُرف بمواقفه المثيرة للجدل تجاه القضايا العربية والإسلامية، بالإضافة إلى انتقاداته الحادة للنظام الجزائري. ويبدو أن انتقاله للإقامة في فرنسا وحصوله على الجنسية الفرنسية عام 2020 قد زاد من تباعد المسافة بينه وبين النظام الذي صار اليوم يترصده للزج به خلف القضبان.
سياسة تكبيل حرية التعبير
كمال داود ليس أول مثقف يواجه ضغوطا من النظام الجزائري؛ فآخر ضحايا القمع الممنهج هو الروائي الكبير بوعلام صنصال، الذي تعرض للاعتقال يوم السبت الماضي خلال هبوطه في مطار الجزائر العاصمة قادما من باريس، بسبب تصريحات صحفية اعتبرها النظام العسكري مسيئة له.
وتؤكد حملات القمع المتواصلة هاته على الصراع المستمر بين النظام الجزائري والمثقفين المستقلين الذين يرفضون مجاراة الروايات الرسمية.
إن قضية كمال داوود تكشف عن مفارقة مؤلمة في الجزائر (العالم الآخر فعلا): بلد غني بالثقافة والفكر، ولكنه يعاني من قيود سياسية تكبل حرية التعبير. وبينما يُفترض أن يكون الأدب وسيلة لفهم الذات ومعالجة الجروح، تظل البلاد في ظل حكم العسكر ساحة للصراعات السياسية التي لا تزال تطارد كل من يحاول كسر الحواجز.