وتبدو مدينة فاس موطن صناعة الزليج البلدي، شاهدة بمعمارها وقصورها البديعة على حضارة وعراقة هذا التراث، رغم المحاولات المتكررة لنهب هذا الموروث وسرقته ونسبه إلى حضارات أخرى.
في شرق المدينة، لجأ عشرات الحرفيين إلى جبل زلاغ الشامخ، بعيدا عن الأنظار، لممارسة مهنة أجدادهم، فوحدها أعمدة دخان متصاعدة توحي بوجود مجمع الكعدة الصناعي، الذي يقع على مرمى حجر من مقلع للطين مخصص حصرا لصناعة الزليج البلدي.
التقت كاميرا le 360 بالمعلم عبد الفتاح الشلح، صانع تقليدي بخبرة تزيد عن 40 عاما، تشرب المهنة على يد كبار حرفيي الزليج في مدينة فاس العتيقة، وأخذ على عاتقه الإبداع والعمل بمهنية، وفقًا لتقاليد عريقة تعود إلى عصور.
يقول المعلم عبد الفتاح في حواره مع le360, إن ما يميز الزليج الفاسي هو مادته الطينية المصنوع منها, فطين هذه المنطقة فريد من نوعه ولا يوجد في أي مكان آخر، فهو يضم من بين مكوناته سبعين مادة معدنية، وهو ما يمنح الزليج الفاسي تألقه، مضيفا « لا نجد هذا النوع من الطين إلا في ضواحي فاس، يتميز بليونته وصلابته، فهو طيع في أنامل الصانع الفاسي الماهر ».
le360
وكشف المعلم عبد الفتاح بعضا من أسرار إبداع الزليج المغربي، منذ تسلم الطين الخام، مرورا بوضعه بعناية في أحواض ماء لغليه مدة 24 ساعة ليأخذ شكل خميرة، لتتم تغطيته بغطاء بلاستيكي وتركه طوال الليل، ليتم وضعه على طبقة من الرماد على الأرض في قوالب مستطيلة الشكل بطول عشرة سنتيمترات، ما يجعله يأخذ شكله الأولي، لتنطلق بذلك مرحلة التجفيف التي تستمر يوما واحدا خلال فصل الصيف، بينما تمتد إلى ثلاثة أيام في فصل الشتاء. وبمجرد تجفيفها، يتم تجميع مربعات الطين المتماسك بعناية فائقة في أزواج بأيدي حرفي خبير لتجنب أي كسر.
وباستخدام مربعات للقياس ومطرقة حادة، يتم تشكيل القطع بدقة، لتأخذ الحجم المطلوب أي « البجماط »، ويمكن للحرفي ذي الخبرة أن يقطع ما يصل إلى ألف قطعة من « البجماط » يوميا. وباستخدام مزيج من الرمل والمنتجات الطبيعية، يتفنن الحرفيون في تحضير اللون المطلوب.
تدخل القطع الفرن وتترك لأكثر من ثلاث ساعات مرة واحدة فقط حتى يحصل الزليج على لونه النهائي. إثر ذلك، يصبح البجماط جاهزا للقطع والتجميع في الوضع النهائي. وهنا مرة أخرى تظهر خبرة المعلم اللافتة.
يفترش المعلم عبد الفتاح الأرض وهو يرص قطع « الزليج » الصغيرة إلى جانب بعضها البعض في احترام لشكل هندسي دقيق، « هناك المئات من الأشكال الهندسية، كل معلم يحفظها عن ظهر قلب ويمكنه مطابقتها من ذاكرته حسب سنوات خبرته »، تركب القطع بشكل مقلوب تكون واجهة « الزليج » للأسفل وظهرها للأعلى.
ورغم ازدهار هذه الحرفة فهي تواجه تحديات كبيرة منها ما جاء على لسان المعلم عزوز، من نقص المواد الأولية وصلابة الطين في أحيان أخرى، علاوة على عدم وجود جيل من الحرفيين الصغار بسبب مصادقة المغرب على المعاهدات الدولية لمكافحة تشغيل الأطفال أقل من 15 سنة.
ويظل الزليج المغربي تعبيرا عن هوية المغرب وتاريخه الغني، فصناعته التي امتدت لقرون، شكلت جزءا لا يتجزأ من التراث الثقافي المغربي، وخير شاهد على الابداع الفني وخبرة يتوجب الحفاظ عليها بأي ثمن وترسيخها في نفوس الأجيال الشابة.