في كتابه هذا، عمل صاحب « حياة صغيرة » على إعادة التفكير في غناء العيطة، باعتباره نمطاً غنائياً يمتلك من الخصائص والمميّزات ما يجعله في مقدمة الأنماط الغنائية الشعبيّة التي تطبع الثقافة المغرب. ففي الوقت الذي كان فيه الاهتمام بالثقافة الشعبية مُغيّباً من ناحية الاهتمام الأكاديمي والمتن التنظيري، بحكم الاستخفاف الذي كان يتم التعامل به مع غناء العيطة، طالعنا حسن نجمي ولأوّل مرّة بدراسة علمية تُشرّح غناء العيطة وتتعامل معه وفق طريقة أصيلة غير مألوفة.
إلى حدود اليوم، ماتزال الثقافة الشعبية لا تحظى بقيمة كبيرة داخل البحث العلمي، باستثناء دراسات شحيحة أُنجزت داخل الأدب العربي، رغم أنّ العديد منها يغلب عليه الوصف والحكي والتفسير. في حين أنّ الثقافة الشعبيّة تتجاوز هذه الاشتغال الضيّق المُقتصر على التحليل، صوب خطاب فكري يتعامل مع الثقافة الشعبيّة، بوصفها مختبراً قابلاً لبلورة فكرٍ مُتجذّر في الثقافة المغربية وبيئتها.
يأتي اصدار حسن نجمي في سياق تحّن فيه الثقافة الوطنية إلى هذا النوع من الدراسات النقدية التي تُبرز خصوصية التراث اللامادي المغربي في علاقته بالذاكرة والتاريخ. إنّ الدراسة وإنْ كانت تتبرّم من الفكر، فإنّها لا محالة تجد نفسها داخل مختبر الأنثروبولوجيا الثقافيّة، حيث تأخذ الكتابة أفقاً مختلفاً ومغايراً عن الدراسات التي تُلخّص اشتغالها في سوسيولوجيا نقد أدبيّ تقليدي غير قادرٍ على التفكير في تحوّلات المنظومة التراثية في علاقتها بالهوية في زمن عولمة غدا أشبه بقريةٍ صغيرة تختفي فيها الحواجز بين الدول.
تُعتبر العيطة تراثاً شعبياً يفرض اليوم على الباحث المغربي إعادة الاشتغال عليه وترميمه وإخراجه من براثن النسيان. ذلك إنّ موسيقى العيطة تُعتبر من الأنماط الفنّية الشعبية القادرة على طرح كثير من الأسئلة داخل المجال الغنائي اليوم. على هذا الأساس، تجد بعض الوجوه الغنائية الشابة بعضاً من المتعة وهي تُعيد الاشتغال على نصوص العيطة عبر وضعها في مختبر الموسيقى المعاصرة، على اختلاف جماليّاتها وقوالبها وأنساقها وآلاتها.
جدير بالذكر أنّ هذه الدراسة، تُعدّ أهم الدراسات النقدية الجادّة والأصيلة التي تعاملت مع فنّ العيطة، وفق تصوّر علمي يستلهم المناهج المعاصرة في مقاربة الشعر الشفوي.
يقول الدكتور سعيد ياقطين في مقدّمته لهذا الكتاب « كانت أطروحة حسن نجمي فاتحة لهذا التغيير، فكشفت الحجاب الذي ظلّ يلفّ في فن العيطة ويغشبها منذط الاستقلال إلى التسعينيات من القرن الماضي. وهذه هي القيمة الخاصّة التي أضافها هذا الكتاب على العيطة، ومن هنا تتحدّد قيمته الطليعية بالقياس إلى أعمال محمد الفاسي وعباس الجيراري وهما يشتغلان بالملحون الذي كانت له شرعية فنية متعارف عليها ومجمع عليها. لقد أكسبها شرعية فنية شاملة لأنها كانت ذات شرعية خاصة تقتصر على من كبر في أحضان التمتع بعوالمها الفنية والجمالية والدلالية. بذل حسن نجمي في كتاب غناء العيط جهد الباحث العالم المدقّق. عاد إلى كتب التاريخ والتراث الشعبي والموسيقىواتّصل برواد هذا الفن وعايشهم، وتعرّف على نمط حياتهم وتمعّن في أغانيهم، ووقف على جزئياتها وتفاصيلها، فكان باحثاً أنثروبولوجياً واجتماعياً ونفسياً وجمالياً، فقدّم لنا كتاباً يجمع بينتقديم المعلومات التي لا يُمكن الوصول إليها إلاّ بالتحرّي والبحث الدقيق »