يُسجّل الباحث في الفيلموغرافيا المغربية نوعاً من التصدّع في الـ 20 سنة الأخيرة على مستوى تلقّي الفيلم الهندي بالمغرب. إذْ لم يعُد هناك نفس الاهتمام بمشاهدة الأفلام البوليوودية، البعض يعتبر أنّ السبب راجع إلى تدنّي المنتوج الهندي نفسه، بينما يرى البعض الآخر في أنّ المغاربة أصبحوا واقعيين أكثر من اللازم وبالتالي، يجدون في الأفلام الهندية نوعاً من المبالغة في تجاوز الواقع. إنّ عرض فيلم هندي في منتصف السبعينيات كان أشبه بعرس مغربي، حيث القاعات صاخبة والكل يغنّي ويرقص نشداناً للفرح، بل حتّى من ظلّ يعتقد أنّ « الحب حرام » بمجرّد خروجه من الصالة ذهب يبحث له عن حبيبة يعيش معها قصّة حبّ. ما يعني أنّ السينما الهنية كان لها أثر بالغ في السينما المغربية، وهو أثرٌ يظلّ موشوماً في أجساد سينيفيليين حقيقيين عاشوا وسط هذا الأوج الفني الذي ظلّ يُظلّل سيرة العلاقة بين المغاربة والهنود. والحق أنّ تأثير بوليوود على السينما المغربية، يبدو بارزاً في عدد من الأفلام المغربية، إذْ رغم البعد الترفيهي الذي يطبعها، فإنّ عملية المشاهدة تكون مُكثّفة ويغمرها العشق النابع من طبيعة الصورة السينمائية الهندية وكيف يغدو المشهد مختبراً بصرياً مُدهشاً.
لقد استطاع الفيلم الهندي أنْ ينقل نظيره المغربي إلى مرحلة أخرى اخترق فيها الحدود والسياجات عبر طرق موضوع الحبّ وقيمته داخل مجتمع مغربي معطّل، تلعب فيه العادات والتقاليد دور الشرطي في حياة الناس. إنّ السينما الهندية رغم أبعادها اللاهوتية، فإنّها تُضمر في طيّاتها مفهوماً مغايراً للحبّ. إذْ يحضر وفق تمثلات مختلفة تجعله قريباً من الحبّ العذري المعروف في ثقافتنا العربيّة. بحيث استطاع المخرج بفضل الفيلم الهندي أنْ يُحرّر مخيّلته من التقليد والتبعية للغرب، من خلال البحث في ذاته عن قصّة حبّ ليست فرنسية ولا هندية ولا أمريكية وإنّما مغربية خالصة. فكانت أفلام عبد القادر لقطع في القرن الماضي، تُجرّب بعضاً من الشبق والغزل في مشاهد سينمائية باقية في ذاكرة السينما المغربية.
أما على مستوى المجتمع، فإنّ السينما الهندية علّمت ولو قليلاً المغاربة وبشكل لا واعي كيف يُمكن للحب أنْ يكون واقعياً وليس متخيّلاً كما يعتقد الناس اليوم. إنّ السينما أداة فعالة في التأثير، بحكم ما تمتلكه من قوّة في التعامل مع الواقع وتغيير الأمزجة وعشق القلوب.
حين شاهدت فيلم « الحلم الهندي » لمُحمّد حفيضي الذي عُرض ضمن قناة الشرق الوثائقية، بدا الجسد وكأنّه في كامله فتنته وفرحه. إنّه فيلم دافئ في إيقاعه وحالم في صُوَره ورفيعٌ في تجلياته الفنية. فيلمٌ يُعيد لك الإحساس بالزمن وبالأيام الطويلة التي قضيتها في مُشاهدة أفلام هندية تستمع إلى موسيقاها وتستمتع برقصاتها وألوانها وهي تبعث في عيناك فرحة طفولية.
مشاهد « الحلم الهندي » متعة حقيقية ارتأى فيها محمد حفيضي أنْ يكون نفسُها وثائقياً وليس روائياً. لكنّ المتعة ليست في المشاهدة فقط وإنّما كيف قام حافظي ببراعة تحريض الذاكرة على التذكّر والنوسطالجيا الخفيّة الساحرة المُنسابة عبر اللاوعي. إنّها طريقة صادقة من محمّد حفيضي وباقي فريقه الفنّي لإرسال إشارات ضوئية عن طبيعة السينما الهندية وكيف أحبّها المغاربة وجعلوا منها نمط حبّ وتفكير وحياة. نجح محمّد في اختيار صُوَرٍ مُدهشة من ناحية التأطير وجعلها في مشاهد كثيرة عبارة عن قصائد شعريّة بصرية تحكي سيرتها الشخصيات الـ 3 وترويه هسيسها الكاميرا وهي تُفسح الكلام والبوح الصادق لشخصيات أحبّت الموسيقى الهندية وظلّت لسنوات طويلة تحمل في قلبها لوعة الموسيقى الهندية وجمالياتها.
إنّ المُميّز في فيلمه أنّه تعامل مع الموضوع بحبّ كبير لدرجة يصبح فيها هذا الحبّ مرئياً، نراها ونسمعه ونتلمّس هسيسه ونقبض على روحه في مشاهد تلفزيونية كثيرة. بيد أنّ الفيلم يبدو وكأنّه أُنجز بأجساد الفريق لا بعقولهم، لأنّ المشاهد خالية من صرامة العقل والتفكير، بحيث عمل حافظي في جعل الصُوَر تنساب هادئة مثل شلال صامت. أيْ أنّه أعطى للجسد كامل السُلطة للتفكير وليس للعقل، لكنْ أنْ يُفكّر الجسد في فيلم محمّد حفيضي معناه أنْ نتعلّم كيف نُحبّ وكيف نتشبّث بأحلامنا وذكرياتنا، بل وكيف نحملها معنا في المنافي الذي نجد أنفسنا فيه يوماً. الإيمان بالأحلام قوّة خفيّة ينضح بها الفيلم ويبني بها معالمه ورؤاه.
أخذني محمّد حفيضي إلى سنواتٍ بعيدة وإلى ذكريات قرمزية، أتذكّرني صغيراً وأنا أمسك بيدي عمي مصطفى وأقف عن باب سينما « كاليبسو » بالفقيه بن صالح وفي قلبي شيءٌ من الفرح الطفولي الطازج. لم أكن أملك مالاً للدخول إلى السينما، لكنّ حارس البوابة يتركني بين فينة وأخرى أتسلل إلى الصالة والجلوس في الخلف للاستمتاع بمشاهدة المشاهد الأخيرة من أفلام هندية. إيقاعها أشعر به الآن في جسدي، ظلال الأجساد أتخيّلها ترقص أمامي الآن. إنّنا لا نشى من حبّ السينما الهندية ولا من ماضيها ولا موسيقاها، إنّها دائمة التجدّد في قلوب الناس وذاكرتهم. سيُحبّ المغاربة فيلم « الحلم الهندي » لأنّه يمنحهم قوّة في التذكّر والاستمتاع بالنوسطالجيا رفقة عائلاتهم.
ورغم أنّ الفيلم يندرج ضمن النفس التلفزيوني، فهو يعمل بقوّة على اختراق الصورة ومجاوزة الوسيط التلفزيوني، لأنّ فيه الكثير من التخييل السينمائي. إنّ حدس محمّد حفيضي بقيمة البعد التخييلي داخل الوثائقي، يجعله أقرب إلى الحداثة البصرية التي تفتقر إليها أفلام مغربية كثيرة.
نجح حافظي في استفزاز القلوب وجعلها تشعر بمحبّة سينما تتراجع إلى الخلف، مُفسحة المجال إلى أنواع فيلمية أخرى. غير أنّ إيمانه القويّ بقيمة هذه السينما وبطبيعة الصداقة المتجذّرة بين الشعب المغربي ونظيره الهندي، يجعله يُقاوم ويغوص في سراديب الصورة السينمائية داخل الدارالبيضاء ومراكش، باحثاً مثل الشاعر عن صورة فنّية مُذهلة، وعاملاً في آن واحد كأركيولوجي مجنون بالحجارة على التنقيب عن ماء ذهب السينما الهندية، مُستعرضاً سيرة أشخاص أحبوا السينما الهندية وآمنوا بها وجودياً وموسيقياً وسينمائياً.
شكراً محمّد حفيضي، لقد جعلت الحبّ مرئياً، إنّ فيلمك الجديد « الحلم الهندي » يُشبه مذاق « الدلاح » البارد والمُنعش في صيف الفقيه بن صالح.