وإذا كانت نهاية الستينيات قد شهدت ميلاد بذور ثقافة الحداثة في المغرب، فإنّ السبعينيات قد بلورت الحداثة بمفهومها الإجرائي، من خلال العمل على تطبيقها داخل الحياة السياسة والثقافية. هكذا برزت العديد من جمعيات المجتمع المدني التي غدت تُطالب بمفاهيم وقضايا لم يكُن مُفكّراً فيها من قبل. حيث أصبح العنصر النسوي يلعب دوراً كبيراً في الدفاع عن قضاياه والعمل على تطبيقها.
غير أنّ الثقافة قد أخذت ناصية كبيرة من المفهوم، بسبب المجهود الذي قام به عدد من المفكرين والسوسيولوجيين والأدباء في توطيد علاقة المغاربة بالحداثة الأوروبية. بعدما تمّ ترجمة عيون المؤلفات والدراسات الغربية ونشرها داخل ملاحق ثقافيّة مغربيّة تشبّع بها المثقفون المغاربة ونسجوا على منوالها مساراً معرفياً قوياً يُضمر في طيّاته خطاباً حداثياً ينتقد الذات ويتطلّع إلى نقد الآخر، في إطار نقدٍ مزدوجٍ كما سمّاه عبد الكبير الخطيبي. لكنّ الشيء الذي عملت الحداثة على بلورته أعمق من ذلك بكثير.
فقد كرّست مفهوم الرفض داخل بنية الثقافة المغربيّة، حيث خرج المفهوم من دلالاته السياسيّة وشغل حيّزاً كبيراً داخل الثقافة، والذي غالباً ما تمّ التعبير عنه بمفهوم "الأزمة"(رولان بارت) أيْ تأزيم كلّ ثقافة جديدة أو فحصٍ معرفي لبعض المفاهيم، قبل العمل على تبيئتها داخل الثقافة الوطنية.
يُعتبر جنس الشعر أحد أبرز الأجناس الأدبيّة التي لعبت الحداثة دوراً كبيراً في تكريسها، بحكم ما شهده النصّ الشعري السبعيني من تحوّلات فنّية وجماليّة. إذْ رغم غلبة البعد الإيديولوجي على بعض التجارب الشعريّة، إلاّ أنّه يبقى الجيل الأكثر تكريساً لقيم الحداثة.
حيث تم الانفتاح على الكثير من الروافد المعرفية في إضاءة معالم النصّ الشعريّ من خلال عنصر الكاليغرافي والثقافة الشعبية واستثمار بعض تقنيات السينما وتوطيد العلاقة باللوحة وغيرها. وهي تحوّلات وسّعت من مفهوم الشعر وأخرجته من النّمط التقليدي القائم على المحاكاة. إذْ تُظهر لنا تجربة عبد الله زريقة بأنّ الشعر قد يتحوّل إلى كتابة فلسفية تقبض على بعضٍ من ملامح الواقع.
ففي ديوانه "سلالم الميتافيزيقا" يحضر الوعي بأهمية الجسد أكثر ممّا يتمثّله ناقد أو مفكّر، باعتبار أنّ الكتابة الشعريّة قادرة أنْ تغدو ممارسة فكريّة لها طرقها الخاصّة بالتفكير ومُنعرجاتها التأمّلية. وتُشكّل كتابات الفيلسوف مارتن هيدغر، تجربة فلسفية غنية في توطيد العلاقة بين الشعر والفلسفة، ففي نظره لا يُمكن القبض عن روح الفكر إلاّ داخل الشعر.
إنّ الوعي بالحداثة، جعل مُجمل كتابات الجيل السبعيني في المغرب يُقدّمون نصّاً شعرياً مُغايراً بالنّظر إلى اجتهادات الجيل الأوّل. بعدما تجاوز الشعر مفهوم اللغة، وما يدخل فيها من عناصر تركيبية، صوب حداثة شعريّة تستمدّ ملامحها من فنونٍ أخرى.
لذلك، تُعدّ الأسماء الشعريّة السبعينية أكثر التجارب التي وثّقت علاقة الشعر بالتشكيل، من خلال عشرات المعارض والكتب المشتركة التي جرى توقيعها، وذلك من خلال إعادة محاكاة أعمالٍ تشكيليّة كما هو الحال في تجربة عبد الله زريقة مع عباس صلادي، ثم لاحقاً مع الفنّان الجزائري رشيد قريشي.
بهذه الطريقة تحوّلت الحداثة أكثر من كونها شعاراً، بقدر ما تجذرت كمُمارسةٍ ثقافيّة يوميّة مؤثّرة في بنية تشكّل الوعي الثقافي المغربي، وعلى منوالها تمت صياغة عشرات التجارب خلال المرحلة الثمانينية التي أرست بدورها بعضاً من ملامح الحداثة، سيما على مُستوى المراهنة على البعد الجمالي للنصّ الشعري، وجعل الخطاب المعرفي يُشكّل أحد أبرز العناصر المؤسّسة للخطاب الشعري مع كلّ من حسن نجمي ووفاء العمراني ومحمّد حجي وغيرهم.