ورغم أنّ الكتابة الخلدونية، ظلت تغوص في مجملها عند أسباب قيام الدول وانحطاطها، إلا أن ميكانيزم الكتابة، جعل صاحب المقدمة، أكثر المؤرّخين شهرة وذيوعاً بالمشرق العربي الإسلامي. وإذا كان الرجل قد عُرف بامتهانه للسياسة من خلال وظيفته في القضاء، فإنّه الآن، يُعرف بوصفه مُؤرّخاً وعلاّمة صاحب مشروعٍ فكريّ تنويري، استطاع من خلاله تأصيل الكتابة التاريخيّة وفق زاوية علمية مُتحرّرة من الأساطير والخرافات وأساليب الوصف والمدح، التي ميّزت بعض أنماط الكتابة التاريخيّة الوسيطية في علاقتها بالسلاطين والحكّام.
والأكثر من هذا، فقد عمل ابن خلدون على تأسيس ما سمّاه بـ بعلم "العمران" الذي يرى فيه الكثير من الباحثين والدارسين، أنّه يُشكّل النواة الأولى لتأسيس علم الاجتماع، مع أنّ القارئ للمقدّمة، يستبعد هذه الفكرة، التي عمل الكثير من المُستشرقين على تفنيدها منذ القرن الـ 19، فحساسية الناس تجاه بلدانهم وأعلامهم وهويّتهم، تجعلهم أحياناً يُطلقون أحكاماً، بدون أيّ تدقيقٍ علمي في الموضوع، ذلك أنّ قضية السبق التأسيسي، قد أسالت الكثير من المداد المعرفي حول المؤسّس الحقيقي لعلم الاجتماع، بين ابن خلدون وأغيست كونت وإيميل دوركهايم.
لا يعنينا في هذا الموضع سيرة ابن خلدون العلمية، ولا إسهاماته من عدمه في تأسيس علم الاجتماع، بل بوصفه مُؤرّخاً امتلك عُدّة علمية رصينة في وقتٍ مُبكّر، جعلته اليوم من كبار المُؤرّخين في العالم، ممّن قعّدوا الكتابة التاريخيّة وجعلوها صناعة مُميّزة في العصر الوسيط. فالمُتأمّل في طبيعة كتاباته سيكتشف أنّ ابن خلدون أكثر حداثة ومعاصرة من فقهاء الكتابة التاريخيّة المغربيّة اليوم.
فالنفس العلمي الموضوعي في تحليل الأحداث والتدقيق في سياقاتها وتمثّلاتها، يبدو غائباً من الكتابة المعاصرة، إذْ يطغى عليها البُعد الخبري الذي يُحوّل التاريخ إلى حكاية، لكنْ ليس بالمفهوم الذي تمثّله رولان بارت، بل باعتباره سرداً تشويقياً ونجومياً يستعرض سيرة بعض المُقاومين في علاقتهم بالأجهزة العسكرية الكولونياليّة، بطريقة لا يُصدّقها العقل. وبسبب هذه الصرامة العلمية التي تميّزت بها الكتابة الخلدونية، فإنّ الرجل قد غدا أكثر العقول التي ساهمت في تنوير المجتمع، سواء من داخل السُلطة أو لمّا اعتزل الحياة العامّة من أجل الكتابة والتأليف.
لا علاقة للمُؤرّخ المغربيّ بالحياة المعاصرة، فهو مهووسٌ بالماضي السحيق يتملّكه ويتحلّل فيه، حتّى يغدو لساناً له، إنّه مُتيّم بهذا السفر الذي يجعل جسده خارج التاريخ، فمواضيعه على مُستوى الكتابة (إنْ وُجدت فعلاً) ترتبط ارتباطاً شديداً بالمقاومة المُسلّحة والحركة الوطنية والإصلاحات والاستقلال والسلفية والتراث، إذْ نادراً ما يعثر القارئ على مؤلّفاتٍ خاصّة بالمعمار وتاريخ التشكيل والسينما والفوتوغرافيا، باعتبارها وسائطٌ بصريّة قادرة على اجتراح أفقٍ مُغاير للكتابة التاريخيّة، فهي تُجدّد منابعها وتقودها إلى اكتشاف جسدها الضائع والمُنفلت.
ونظراً إلى هذا التشنّج الذي يطبع الكتابة المعاصرة، فلا مراء أنْ يجد المُؤرّخ نفسه خارج الحياة السياسيّة اليوم، إذْ لا رأيّ له ولا أحد يسمعه، لا لأنّ المؤسّسات السياسيّة وهياكلها التنظيمية، لا تدعوه إلى إلقاء مُحاضرة أو إبداء رأيه في قضية مُعيّنة، بل لأنّ معرفته تظلّ قابعة في الماضي ولا تستطيع مُسايرة التطوّرات التي يشهدها المجال السياسي وتطوّراته الدبلوماسية، رغم أنّه الأولى بتفسير الأحداث السياسيّة وفهم سياقاتها التاريخيّة والوقوف عن أسبابها والدوافع التي كانت وراء تفجّر، إلاّ أنّ كتاباته تظلّ بمنأى عن الثقافة المعاصرة وتحوّلاتها، بما تجعله يعيش حاضراً لا يُنضب، يُساهم فيه ويُغذّيه بمواقفه، بدل أنْ يكون بالنسبة للزمن المعاصر مجرّد رجل للذكرى.
لا غرابة أنْ تُطالعنا الكتابات التاريخيّة داخل المُختبرات العلمية وكأنّها خطابٌ دعويّ مرضيّ، حيث الأحداث التاريخيّة تأخذ نمطاً تشويقياً في ذهن القارئ، إذْ لا يتمّ تمحيصها وتدقيقها والتركيز على أهمّها، ممّن استطاعت التأثير في المسار التاريخيّ كنوعٍ من استشكال تاريخٍ إشكاليّ قادر على تفكيك البُنى السياسيّة وفهم تطوّراتها بما يخدم قضايا الزمن الراهن، بدل الإقامة في سراديب معرفةٍ ماضويّة تنفي في طيّاتها كلّ مُحاولات الحداثة والتحديث التي طالت الواقع اليوم.