لكنْ، حين تنتشر تلك المَشاهد في أوساط الاجتماع المغربيّ وتغدو في مُواجهة السلطة الرابعة، يخرج هؤلاء أنفسهم، ممّن حقّقوا للفيلم نسب مُشاهداتٍ عالية، من أجل توجيه نقدٍ مُباشرٍ وعلني إلى تلك الأفلام، بدعوى أنّها تخدش الحياء وتطمس هويّتهم الحقيقة، لأنّها تُصوّرهم بطريقةٍ غير صحيحة، مقارنة بما هم عليه فعلاً في الواقع. وأغلب الظنّ أنّ الذين يصدرون مثل هذه الأحكام على فيلمٍ سينمائيّ مُتخيّل، قد استمتعوا بمُشاهدتها وحمّلوا مَشاهدها وشاركوها بين أصدقائهم، لكنّهم مع ذلك يبدون حريصين على الحكمة المعرفية والموعظة الأخلاقية تجاه المجتمع.
وبغضّ النّظر عن الخلفيات الأخلاقية التي تُؤسّس نقدهم، يدفعنا ارتفاع عدد مُشاهدات هذه المَشاهد إلى الإقرار بأنّ الجري وراءها وما تخلقه من جدلٍ، تجعل المُتلقّي ينصاع إلى نقاشٍ شعبويّ فارغٍ، في وقتٍ ينبغي الاهتمام فيه بتفاصيل أخرى مُرتبطة بجماليّات الصورة وبراعة التأليف وأداء المُمثّل، بدل اعتبار قبلة أو عناق أو نقد، مجرّد كليشيهات أو تابوهات ينبغي الاستغناء والتخلّي عنها لحظة التصوير. لذلك، فإنّ الاهتمام بالخطاب الشعبويّ للفيلم، يجعل ذهنية المُشاهد، تنسى أسس الصناعة الفنّية، التي تقوم وتُشيّد عليها المُشاهدة السينيفيلية، لأنّ الجدل الذي يُرافق أيّ فيلمٍ سينمائيّ، إذا لم يعمل على إثراء الجانب الفكريّ، فإنّه يبقى عقيماً، بحكم أنّه غير مبني على مفاهيم وسياقات ونظريات، بل فقط مجرّد أحكامٍ، تجعله كلامُ ليلٍ يمحوه ضوء النهار.
على هذا الأساس، فإنّ نمط المُشاهدة في المغرب الذي يقف سادراً أمام "تابوهات" الفيلم وسياقه الاجتماعي ومدى علاقته بمفاهيم الموعظة والأخلاق، يحجب تلقائياً مفهوم الفرجة السينمائية، بوصفها تخييلاً مُكثّفاً يقوم على تصوير الواقع واستنطاق سراديب الجسد، بما يُضمره الفيلم من اشتغالاتٍ جماليّة في نسيجه البصريّ ويجعله يرتاد آفاقاً أخرى، انطلاقاً من بوابة الصورة السينمائية المَفتوحة على مُختبر واقعٍ مُتغيّر ومتاهات الذات وأحلامها.
يُؤيّد المُشاهد المغربيّ مقولة "السينما النظيفة" ويُدافع عنها علناً أمام الناس في السوشيال ميديا، لكنّه لا يُؤمن بها في خلوته، حيث يطلق العنان للمُخيّلة، وهي تُسافر عن طريق العين، صوب صُوَرٍ ومَشاهد من أفلامٍ سينمائيةٍ عالمية عدّة. وتبرز هذه المُفارقة العجيبة في نسب المُشاهدات العالية، التي تُعرّيها الإحصاءات الموسمية ويتسبّب المنع في ذيوعها وانتشارها، وجعلها تستقطب شرائح أخرى من المُجتمع، وإلاّ كيف نُفسّر ارتفاع منسوب هذه الإحصاءات في حالة ما كان المُشاهد المغربيّ فعلاً يُعارضها وغيرٍ راضٍ عنها؟ يبدو المُشاهد وكأنّه يعيش حياة مُزدوجةٍ أكثر من السينما، أوّلاً، حياته الواقعية التي يلعب فيها دور الواعظ ورجل الأخلاق القادر على تحديث المجتمع. وثانياً، حياته الشخصية المُتخيّلة، التي يُشاهد فيها ما طاب له من أفلامٍ ومُسلسلات، دون أيّ رقيبٍ أو حسيب.
فهذه المُمارسات الفظيعة المُتناقضة، لا تُضمر في طيّاتها سوى هشاشة مُتصدّعة، مازالت غالبة على نمط تفكيرنا وسلوكنا، والتي لا تُؤكّد سوى الارتجال البيّن في استيعاد مفهوم الحداثة السينمائية، باعتبارها فنّاً، يُحرّر إدراكنا البصريّ، ويجعلنا نعيش حلماً رائعاً طيلة مدّة عرض الفيلم. وهو الأمر، الذي لا يستطيع الواقع بكلّ نتوءاته المُضنية منحنا إيّاه، بما يحبل به من أهوالٍ وأعطاب وتناقضات. فالسينما تمنحنا عالماً غنياً بالدلالات والرموز، إنّها تُساعدنا على العيش وتُجمّل حياتنا اليوميّة وتقودنا صوب مُنعرجاتٍ تخييليةٍ، تنتفي فيها حدود الواقع والخيال. ليس السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، يتعلّق حول ما إذا كانت السينما في المغرب "نظيفة"، فهذا المفهوم مجرّد بدعةٍ أخلاقيّة، تم الترويج له خلال بدايات التسعينيات، عبر أفلامٍ سينمائية مصرية حقّقت نجاحاً مُذهلاً في شبّاك التذاكر بسبب رهانها على مفاهيم تدور في مُجملها حول براديغم الجسد، رغم أنّ طرحه في أفلامٍ مُعيّنة كان يحمل بُعداً تجارياً وليس فكرياً.
وشيئاً فشيئاً، بدأت رياح السينما النظيفة تغدو المنطقة المغاربيّة، فعملت منذ بدايات الألفيّة الجديدة على وضع السينما ومُتخيّلها في ميزان الحلال والحرام، وفق نمطٍ بصريّ يقوم على اختيار الفيلم، بما يتماشى مع تفكيره ومُعتقداته وسلوكاته وعاداته وتقاليده، وهو أمرٌ، ينفي قيمة الفنّ عموماً والسينما على الخصوص، إذْ ينزع عنها حريّتها ويجعلها مجرّد خطابٍ عادي مثل باقي الخطابات الواقعيّة الدغمائية.
لا غرابة أنْ تظلّ الأفلام السينمائية المُنتقدة والممنوعة من العرض داخل مهرجاناتٍ وصالاتٍ في المغرب هي الأكثر مُشاهدة. ففي هذه الحالة أو الفوضى البصريّة، يتمّ التشويش عن طقوس السينما، حيث يُستغنى عن مفهوم "المُشاهدة" لصالح "التلصّص" على صُوَر ومَشاهد ولقطات بعينها. وكلّما تزايد المنع ازداد الفيلم شهرة، بعدما يتمّ تقطيع مشاهد خاصّة منه ومُشاركاتها داخل منصّات وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا وقد انتبه العديد من المخرجين إلى ذلك، فأصبحوا يعملون في أفلامهم على خلق جدلٍ بصريّ، بما يُضيفونه من توابل سياسيّة أو نفحة شبقية، يتمّ توليفها في "البوند آنونس" بعدما تُكثّف صُوَرها ويُبقي المُخرج على المُؤثّرة، فيعتقد المُشاهد أنّ الفيلم حميميّ، ما يخلق رواجاً تجارياً وجماهيرياً قبل عرض الفيلم.
هذه الطريقة غدا يتعامل بها العديد من المخرجين، ممّن تعنيهم الجماهير الهلامية ويطغى على أفلامهم البُعد التجاري المنفعي الذي يُحوّل السينما إلى بضاعة فنّية مُربحة. أمّا المخرجون الحقيقيون، فإنّهم يعرفون مُسبقاً ولحظة الكتابة أنّ أفلامهم ستجد طريقها إلى المُشاهد وستنحت لا محالة مفاهيمها وتبسط مُتخيّلها على جغرافية العالم العربيّ. إنّ المُخرج الحقيقي، يمتلك من الفطنة ما يجعل بعض مَشاهده الجريئة قابلة للمُشاهدة، دون الاستغناء عن مشهدٍ حميمي مثلاً، لأنّه من خلال الكاميرا يستطيع التلاعب بأنماط الصورة ومعه مُتخيّل المُشاهد، فيُدخله عمداً في زاويةٍ تخييليّة، يُصبح فيها المُتلقّي يفهم كلّ شيءٍ وله القُدرة على مُمارسة تخييلٍ مُزدوجٍ، ربّما قد يتفوّق فيه على المُخرج نفسه.