زوم على المغرب: الشاعر اللبناني عيسى مخلوف لـLe360: عشتُ مثل هذه اللحظات في المغرب

الشاعر اللبناني عيسى مخلوف

الشاعر اللبناني عيسى مخلوف . DR

في 27/07/2022 على الساعة 11:31

على مدار سنواتٍ طويلة، شكّل المغرب بعُمقه التاريخي وتنوّعه الثقافي، محطّة سياحية للعديد من الكتاب والشعراء والفنّانين والفوتوغرافيين والمخرجين، الذين زاروا المغرب وعاينوا ذاكرته وجماله، من خلال عددٍ من المُدن التاريخيّة، التي أقاموا فيها من أجل إقامة نوعٍ من الطباق البصريّ بين الواقع والخيال.

في هذه الزاوية الأسبوعية الجديدة، يلتقي le360، بجملة من كبار الكتاب والشعراء والفنّانين والمخرجين من العالم العربيّ، ممن أُتيحت لهم الفرصة لزيارة للقراءة عن المغرب أو الإقامة فيه أو حتّى المرور عبره إلى أمكنةٍ أخرى، من أجل تقديم صورة جماليّة بانورامية خارجية عن البلد وعُمق عاداته وروعة تقاليده وحداثة ثقافته وجماليّات فنونه وما مارسه منذ سبعينيات القرن الـ 20 من سحرٍ على تفكيرهم وأجسادهم ومُتخيّلهم وجعلهم يحلمون ويتطلّعون أكثر إلى الالتحام بالواقع المغربيّ وتاريخه من أجل التفكير والكتابة والإبداع والابتكار.

إنّ الزاوية ليست مجرّد سفرٍ في الأمكنة والفضاءات والجغرافيا عموماً، وإنّما سفرٌ عميقٌ في سراديب الجسد وأحراش الذاكرة. سفرٌ ضاربٌ في عمق الثقافة والفنّ ودهشة السؤال. هنا يتحرّر العقل من صرامته الوجودية القهرية ويُطلق الجسد العنان أكثر لمُتخيّله ومشاعره وأحاسيسه في التعرّف على ثقافة الآخر وفنونه، حتّى يتمرّدان على صبغة العقل المنطقية ويُقدّمان معاً صورة ثقافيّة نوسطالجية عن أواصر الصداقة والحب التي انتسجت منذ منتصف القرن الـ 20 بين المغرب والمشرق.

الحلقة الـ 11 من هذه الزاوية الأسبوعية، مع الشاعر والكاتب اللبناني المُقيم في باريس عيسى مخلوف، وهو من كبار الشعراء ونقّاد الفن بالعالم العربي وأحد أبرز علاماته المُضيئة داخل الثقافة العربيّة المعاصرة. فكتابات عيسى مخلوف تتميّز دوماً باختلافٍ مُتوهّج يجعل كتابته تُفكّر، بدل أنْ تغدو خطاباً شفهياً يحصرها في القول والتعبير. وإنْ كان عيسى يمزج في سيرته الأدبيّة، بين الشعر والتأمّل الفكري والنقد الفنّي، فلأنّ للرجل باعٌ طويلٌ في الثقافة الغربيّة ويمتلك وعياً أصيلاً بلغاتها وثقافتها وفنونها. وليس غريباً أنْ يندهش قارئ عيسى مخلوف من كتاباته في الفنّ وقُدرته على نحت أفكارٍ جديدةٍ أو تقديم أفكار ومواقف ومراجعات للعديد من قضايا الفنّ، سيما في علاقته بالأدب.

وتبرز أهمية عيسى اليوم، انطلاقاً ممّا يكتبه من مقالات ثقافيّة يُكسّر من خلالها الأنفاق المُظلمة والسراديب المُعتّمة التي تتأرجح فيها الثقافة المعاصرة، دون التفكير في عملية إخضاع مُعتقداتها وأساطيرها إلى عملية تأمّل وفحصٍ ونقدٍ. غير أنّ عيسى مخلوف ينقلنا في كتاباته إلى "ضفاف أخرى"(عنوان كتابه الأخير) حيث للثقافة دورٌ مركزيّ في الحياة المعاصرة، بل حيث يُصبح الفنّ ضرورة وجوديّة، يتماهى فيها الإنسان الغربيّ مع كافّة الممارسات الفنّية وأبعاده الجماليّة. لكنّ عيسى له قُدرة مُتفرّدة في تحويل العابر من الأحداث الثقافيّة والفنّية إلى قضيّة مركزيّة تشغل الرأيّ العام، وتُثير أسئلة قويّة قوامها التفكير والتأمّل وسندها الجرأة ودهشتها.

بدايةً، ما الأسباب الوجدانيّة المعرفيّة التي ساهمت في سيرة وعيكم وتشكيله، وفي سفركم صوب المغرب؟

- كنتُ في التاسعة عشرة من عمري عندما قرّر أهلي إخراجي من لبنان الذي كان يعيش بداية حربه الأهليّة وإرسالي إلى فنزويلا حيث لنا أقارب. ولا يزال صدى عبارة والدي في أذني وهو يودّعني: "اذهب بضعة أسابيع ريثما تنتهي الحرب"، لكنّ الحربَ، بأشكالها المختلفة، لم تنتهِ حتّى الآن. من كاراكاس عدتُ إلى باريس لمتابعة دراستي الجامعيّة. وباريس كانت شرفتي إلى العالم، ومن ضمنه المغرب. رحلتي الأولى إلى المغرب كانت للمشاركة في مهرجان موسم أصيلة الثقافي الدولي والحديث عن أدب أميركا اللاتينيّة. ثمّ، في وقت لاحق، دعاني السياسي والأمين العامّ لمؤسّسة منتدى أصيلة محمد بن عيسى إلى الإشراف على كتاب مخصَّص للشاعر العراقي بلند الحيدري عنوانه "بلند الحيدري... اغتراب الورد"، وقد صدر عن "المنتدى الثقافي العربي الإفريقي (منتدى أصيلة)" وشارك فيه عدد من الأدباء والفنّانين. في تلك الفترة، بدأت علاقتي بالمغرب وأخذَت تتعمَّق مع كلّ زيارة ومع لقاءاتي مع مثقّفيه وأدبائه وفنّانيه، ولي بينهم أصدقاء كُثر. أمّا الأسباب الوجدانيّة المعرفيّة التي ساهمت في سيرة وعيي وتشكيله، فيمكننا، هنا، أن أتوقّف عند واحد منها، وهو السفر.

إنّ السفر الذي كان، في البداية، اقتلاعاً وابتعاداً قسريّاً عمّن أحبّ، وعن أماكن أحبّها، تحوّل مع الوقت إلى أداة معرفة وتَعَلُّم وانفتاح، وغيَّر نظرتي إلى ذاتي وإلى العالم من حولي، بل جعلني أكثر اتّساعاً وأكثر تسامحاً مع نفسي ومع الآخرين.

هل يمكن أن نستلهم هنا عبارة محمود درويش المدهشة: "ما زال الطريق إلى البيت أجمل من البيت...". كيف كان طريقكم إلى المغرب؟

- لا يوجد طريق واحد إلى البيت بل طُرُقات. هناك من يحلم في بلد ما ويتخيّله وفقَ صورة خاصّة في نفسه. وهناك من تطالعه صورة لمكان وينسج حولها تصوُّرات وتطلُّعات. وثمّة من يقرأ مقالة أو كتاباً يحضر فيه هذا البلد أو ذاك فيتحمّس للسفر. هناك بلدان ومدن صارت الكتابة الأدبية عنها جزءاً من تكوينها ومن هويّتها. باريس، مثلاً، هي التاريخ والعمارة والثقافة والمتاحف والحدائق، وهي أيضاً مختبر المدارس الأدبيّة والفنّيّة، فضلاً عن حضورها الواسع في مؤلّفات كثيرة مخصّصة لها منها، على سبيل المثال، كتاب "باريس عيد" للروائي الأميركي إرنست همنغواي. المغرب هو كذلك من البلدان التي كُتبَ عنها الكثير، وله حضور في المخيّلة الجماعيّة في العالم أجمع، هذا بالإضافة إلى أنّ هذا البلد الساحر بطبيعته جذب إليه الكثير من الفنّانين التشكيليين (ومنهم من استلهم لمعان ضوئه وألوانه، أو كتب عنه كما فعلت إيتل عدنان في كتابها عن النسيج المغربي)، كما جذب مخرجين سينمائيين أنجزوا فيه، منذ العشرينيّات من القرن الماضي، أفلاماً عالميّة الطابع، منهم ألفرد هيتشكوك وأورسن ويلز وبيار باولو بازوليني، يضاف إليهم مخرجو المغرب نفسه، وكتّابه وفنّانوه. إلى ذلك، ارتبطت أسماء أدباء عالميين بمُدن وبلدات مغربيّة أقاموا فيها، ومنهم جان جونيه وبُول بولز وخوان غويتيسولو ومارغريت يورسونار. وهذه الأخيرة، زارت مدينة تارودانت، قبل وقت قصير من وفاتها، برفقة المصوّر صدري دراجي الذي التقط صورة ليديها المسترخيتَين فوق إحدى مخطوطاتها. ولدى رؤيتها الصورة، عبَّرت يورسونار عن رأيها في الشيخوخة والموت، وقالت: "إنّي أرتعب من الشيخوخة، من شيخوختي أنا على الأقلّ. لذلك، لم يكن من دواعي سروري رؤية هذه الصورة ليديَّ وقد تغيّرتا بشكل رهيب. لكن، ماذا يمكننا أن نفعل؟".

لقد بدأَت رحلتي إلى المغرب قبل زيارتي الأولى له، وذلك من خلال مؤلّفات لشعراء وروائيين ومفكّرين مغاربة التقيتُ بعضهم في باريس، خصوصاً في المرحلة الأولى لوصولي إليها، ويوم كنتُ مسؤولاً عن القسم الثقافي في مجلّة "اليوم السابع" وكان أحد هواجسي الثقافيّة المشارَكة (بالإضافة إلى الحوار المنشود بين ضفّتي المتوسّط) في الدعوة إلى إرساء حوار عميق بين المشرق والمغرب العربيّين. وهذا ما سعيت إليه أيضاً أثناء عملي في إذاعة الشرق حيث أجريتُ سلسلة لقاءات في هذا السياق ومنها حوارات مع المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري والكاتب السوري جورج طرابيشي حول "نقد العقل العربي". في تلك الفترة، تعرّفتُ إلى إدمون عمران المليح، والتقيتُ في منزله في حيّ المونبارناس، حول عشاء مغربي جهّزه هو بنفسه، كلاًّ من محمّد برادة وليلى شهيد والطاهر بن جلّون. (تلك السنة بالذات، كان قد صدر كتاب المليح وعنوانه: "ألف عام، يوم واحد"). تعرّفتُ لاحقاً على عدد كبير من المؤرّخين والشعراء والروائيين والفنّانين التشكيليّين المغاربة المقيمين أو العابرين في العاصمة الفرنسيّة، ومنهم أحمد المديني وحسن نجمي ومراد القادري وياسين عدنان ومحمّد المليحي وفريد بلكاهية وصلاح بوسريف وجمال بودومة وسهام بوهلال وعبد الإله الصالحي وأنيس الرافعي ويحيى عمارة وباقا لطيفة وماحي بينبين وعبد السلام الشدّادي، وأيضاً عائشة بلحاج وعبد اللطيف اللعبي الذي جمعني به الأدب، شعراً ونثراً، كما جمعتنا الترجمة، وأقمنا أمسية شعريّة مشتركة في "معهد العالم العربي" في باريس تحت عنوان "شموس أخويّة". مع هؤلاء ومع غيرهم، خَطوتُ خطواتي الأولى إلى المغرب.

ما الرؤى والأحلام والاستيهامات التي اجتاحت مخيّلتكم ورافقت رحلتكم إلى المغرب؟

- تكوَّنت في ذهني فكرتي الأولى عن المغرب، قبل زيارتي له، من الكتب التي كنتُ قرأتها عنه والنتاجات الأدبيّة والفنّيّة التي كنتُ أتابعها. وعندما وصلتُ إليه كنتُ أجد نفسي، أحياناً، أمام مشاهد تحيلني إلى أجواء "ألف ليلة وليلة": أطياف بشريّة تَعبر أمامي في العَشايا بجلابيب طويلة، تُحاذي مباني ومساجد قديمة، وتختفي وراء مداخل حجريّة وأبواب مقوّسة تعكس الهندسة المعماريّة الكلاسيكيّة بزخارفها التقليديّة وفسيفسائها الخزفيّة وصِلاتها مع ثقافات متنوّعة، يقابلها في أماكن أخرى عمارة حديثة بدأت أوائل القرن العشرين إبّان الاحتلالات الفرنسيّة والإسبانيّة وتجمع بين طراز الآر ديكو والنمط الموريسكي الجديد. ثمّة في المغرب اليوم تَزاوُج بين القديم والحديث، الأصالة والمعاصَرة، والانفتاح على التجارب الجديدة. لفتني أيضاً منذ وصولي إلى باريس، وبالإضافة إلى الأعمال الأدبية لكتّاب مغاربة باللغتين العربيّة والفرنسيّة، مساهمات نخبة من البحّاثة المغاربة في العلوم الإنسانيّة وحضورها المميّز على هذا الصعيد.

شكّل المغرب حلقة هامّة ضمن مسار تحديث الثقافة العربيّة المعاصرة، لما ظلّ يلعبه من دور فعّال في تقوية أواصر السؤال والصداقة والفكر مع المشرق العربي. من موقعكم البحثي/ الأدبي/ الفنّي، كيف ترون وتُقيّمون راهن الثقافة والفنون في مغرب اليوم؟

- لا شكّ في أنّ للمغرب خصوصيّته الثقافية ليس فقط من حيث الإزدواجيّة اللغوية التي أتينا على ذكرها، واستعمال كتّابه اللغتين العربية والفرنسيّة، بل أيضاً من خلال انفتاحه على الثقافات الأخرى، وحضوره، على المستويات الفكريّة والأدبيّة والفنّيّة، من خلال أسماء لامعة، في قلب المشهد الثقافي العالمي. لكن، من جانب آخر، تعيش الحياة الثقافيّة في المغرب الآن ما تعيشه في معظم الدول العربية، وتواجه تحدّيات مماثلة. تحدّيات منبعها داخلي وخارجي على السواء، طالما أنّ المعنى الثقافي يتغيّر في العالم بصورة عامّة. من التساؤلات المطروحة في هذا المجال: إلى أيّ مدى تستطيع الثقافة أن تتحرّك خارج أطر المؤسّسات القائمة؟ هل تتوفّر الشروط اللازمة لصراع الأفكار وتفاعلها في إطار يحفظ حرّيّة التعبير واحترام الاختلاف؟ أيّ دور للمثقّف المتنوِّر اليوم ضمن مناخ عامّ يضؤل فيه التفكير العقلاني والحسّ النقدي؟ هل تستطيع فئات مهمّشة ومعزولة أن يكون لها أثر ما في ثقافة المجتمع ككلّ؟ كيف يواجه المبدع الخلاّق تحويل النتاجات الإبداعية التي تصبو إلى الإرتقاء بالإنسان والمجتمع، إلى بضاعة يهيمن عليها القطاع التجاري واعتبارات الثقافة السائدة؟

بعد هذه السنوات كلّها، ما الذي يبقى في نفسك من المغرب؟

- كما سبق أن ذكرتُ منذ قليل، يحضر المغرب فيَّ بخصوصيّاته وبنقاط التقائه مع بقيّة أنحاء العالم العربي الذي يمرّ بمرحلة مخاض دقيقة في عالم مُتَحوِّل يزداد صعوبة يوماً بعد يوم. الأسئلة الجوهريّة العامّة، المطروحة اليوم في المغرب، تطالعنا أيضاً في لبنان ومصر وسوريا والعراق وبقيّة الدول العربيّة، ومن هذه الأسئلة ما يتعلّق بالحوار المتكافئ بين الثقافات، بالفكر العقلاني ونقيضه، بالعلاقة مع الذات والآخر، وبمواضيع الدين والمرأة واللغة والتعليم والفقر والبطالة والتقدّم العلمي والتكنولوجي وظروف العالم الراهن وأوبئته ونزاعاته وحروبه. وهل تستقيم ثقافة، في أيّ مكان كان، من دون وعي هذه المسائل الجوهرية وكيفيّة التعاطي معها بصورة تفتح الطريق نحو المستقبل؟ ألا يقتضي ذلك، في المقام الأوّل، العمل على محو الأمّيّة والانتصار للعلم والمعرفة؟

هل من كلمة أخيرة تقولها عن المغرب؟

- بالنسبة إليّ، لا توجد أبديّة، لكن، هناك لحظات تبدأ ولا تنتهي. لحظات بطَعْمِ الأبديّة. وعلى الرغم من البؤس اليومي، والفقر الذي في عيون أطفال الشوارع والقطط الشاردة، هناك سماواتٌ دائمة الزُّرقة، وهُبوب روائح الليمون والبرتقال، والابتسامات الطافية كأزهار النيلوفر فوق الماء، تحيّي المساءات المتعاقبة والصُّبح الطالِع. هناك وُعودٌ بأنّ أشياء كثيرة ستتغيّر وبأنّنا سنعود لا محالة إلى أمكنة أحبَّتنا وأحببناها. لقد عشتُ مثل هذه اللحظات في المغرب، ولا أزال حتّى الآن أبحث عنها هنا وفي كلّ مكان.

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 27/07/2022 على الساعة 11:31