في هذه الزاوية الأسبوعية الجديدة، يلتقي Le360، بجملة من كبار الكتاب والشعراء والفنّانين والمخرجين من العالم العربيّ، ممن أُتيحت لهم الفرصة لزيارة للقراءة عن المغرب أو الإقامة فيه أو حتّى المرور عبره إلى أمكنةٍ أخرى، من أجل تقديم صورة جماليّة بانورامية خارجية عن البلد وعُمق عاداته وروعة تقاليده وحداثة ثقافته وجماليّات فنونه وما مارسه منذ سبعينيات القرن الـ 20 من سحرٍ على تفكيرهم وأجسادهم ومُتخيّلهم وجعلهم يحلمون ويتطلّعون أكثر إلى الالتحام بالواقع المغربيّ وتاريخه من أجل التفكير والكتابة والإبداع والابتكار.
إنّ الزاوية ليست مجرّد سفرٍ في الأمكنة والفضاءات والجغرافيا عموماً، وإنّما سفرٌ عميقٌ في سراديب الجسد وأحراش الذاكرة. سفرٌ ضاربٌ في عمق الثقافة والفنّ ودهشة السؤال. هنا يتحرّر العقل من صرامته الوجودية القهرية ويُطلق الجسد العنان أكثر لمُتخيّله ومشاعره وأحاسيسه في التعرّف على ثقافة الآخر وفنونه، حتّى يتمرّدان على صبغة العقل المنطقية ويُقدّمان معاً صورة ثقافيّة نوسطالجية عن أواصر الصداقة والحب التي انتسجت منذ منتصف القرن الـ 20 بين المغرب والمشرق.
الحلقة الـ9 من هذه الزاوية الأسبوعية، مع الناقد والباحث في تاريخ الفنّ التونسي خليل قويعة، وهو من الأسماء النقديّة الغزيرة، التي تتميّز بكثافة القول والاشتباك مع مفهوم الفنّ العربي المعاصر. إذْ تتميّز كتاباته ببُعدٍ فلسفي، مع أنّه لا ينفي في كتابته الشرط التاريخيّ، باعتباره من المُقوّمات الإبستمولوجية التي يستند عليها فعل الكتابة. وتتوزّع كتابات خليل قويعة بين المونوغرافيات التاريخيّة والكتابة النقديّة المجرّدة المفتوحة على النظرية الفكريّة وإمكانات تطبيقها على تجارب فنّية عربيّة، تمزج بين القديم المُعتّق في الفنّ الحديث ونظيره المعاصر المُنبثق عن التجريب وتطويع مفردات الواقع بصرياً.
بداية، ما الأسباب الوجدانية والقناعات المعرفية، التي ساهمت في سيرة وتشكيل وعيكم وسفركم صوب المغرب؟
الفكر التّاريخي واجتماعيّة المعرفة الجماليّة والنّقديّة. عند تفسيره لتاريخ العرب والبربر، أوضح ابن خلدون، حسب علي أومليل، كيف "أنّ الدّين يتحقّق في التاريخ بفضل قوّة فعليّة هي قوّة العصبيّة". ويضيف أومليل في كتابه "الخطاب التّاريخي، دراسة لمنهجيّة ابن خلدون" وهو في الأصل أطروحة دكتوراه نوقشت بالسّوربون، سنة 1977، "إذا اعتبرنا التاريخ في حدود التّصوّر الخلدوني، فإنّه لا يتحدّد إلاّ بفعل قوّة القبيلة وحدها. فبالرّغم من أنّ العصبيّة شعور غريزيّ (النّسب) وهو شعور لا تاريخي، إلاّ أنّها تعمل مع ذلك عن طريق بنية قبليّة وعلى هذا النّحو فهي تصبح تاريخيّة". كيف نمرّ من مجرّد شعور غريزي إلى بنية تاريخيّة؟ مثل هذه المواقف كانت موضوعا لاشتغالي أواخر الثمانينات بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس، في إطار أستاذيّة الفلسفة وتحديدا في مادّة علم الاجتماع العام التي كان يدرّسها كل من الأستاذين عبد الوهاب بوحديبة.
وقد كان مركّزا على النصوص المؤسّسة للسّوسيولوجيّين الأُوَل في الغرب والمنصف ونّاس، الذي كان يشتغل على المسألة الثقافيّة في المغرب العربي وقد كان التّركيز وقتها على نموذج المغرب الأقصى من خلال مقاربات سوسيولوجيّة وبالاعتماد على نصوص مختلفة للمفكّرين المغربيّين من أمثال عابد الجابري، في "نحن والتّراث" وهو طرح في الفلسفة العربيّة الاسلاميّة من منظور الفكر التّاريخي وكنت قد قدّمت عرضا حول الكتاب بل وأتيحت لي الفرصة لإجراء حوار مع هذا المفكّر على هامش ندوة التأمت في ديسمبر سنة 1989 بتونس، المشتل، حول التفكير المغاربي ومطلب لوحدة العربيّة... ومن خلال أبحاث المنصف ونّاس ودروسه كنت قد عاشرت عديد النّصوص والمقاربات لكل من عبد الله العروي وفطيمة المرنيسي فضلا عن الجابري وأومليل والخطيبي وغيرهم... كما كانت الفرص سانحة للحديث بصفاقس مع مثقّفي المغرب من قبيل الفيلسوف محمد وقيدي، مقهى الدّيوان، سنة 1994 والشاعر النّاقد محمّد بنّيس، بقاعة محاضرات، سكّرة سنة 1990، على هامش ندوات مختلفة كانت تنتظم بفضل كلية الآداب بصفاقس وجمعيّة الدّراسات الأدبيّة أيضا... هذا فضلا عن معاشرتي لكتابات في الفلسفة والابستيمولوجيا وبعض ما تصدره دار توبقال لكلّ من سالم يفوت وعبد السلام بن عبد العالي.
فضلا عن معرفتي لفكر الرّائد محمّد عزيز الحبابي. هكذا، كان المغرب يمثّل لي مدرسة في الفكر التّاريخي قدّمت للعالم رؤية يرتهن فيها المفهوم الفلسفي والنّقدي بالمقاربة التّاريخيّة، وذلك في مواضيع شتّى مثل الهويّة والحداثة والتراث، بعيدا عن التّناولات العائمة أو السطحيّة أو ذات الأصول الميطافيزيقيّة والإطلاقيّة التي لا تعتمد على عامل الزّمن كعنصر مهمّ في الفهم والتّحليل.
على مستوى اجتماعيّة المعرفة الجماليّة، كنت مطّلعا على فنون المغرب من الفنّ العربي الإسلامي مثل الخزف أو الزليج المغربي وذلك التّواشج التاريخي مع تراث مدينة تونس والقيروان، أو في الفنّ الحديث أيضا، وكنت قد قدّمت نصوصا حول فنّ الرّائد فريد بالكاهية في مجال الاستلهام من التراث الحرفي المغربي ضمن لوحة حديثة وخاصة على مستوى الخامات مثل الجلود والدّباغة أو على مستوى الزّخارف... وكانت لي فرصة اللّقاء بهذا الفنّان بمعرضه الشامل بقاعة عمار فرحات بسيدي بوسعيد منذ أكثر من عشرين سنة. هذا فضلا عن متابعتي لبعض ما يكب أصدقائي النّقاد بالمغرب الأقصى. على سبيل المثال يطرح الصّديق موليم العروسي في كتاب "التشكيل العربي المعاصر، أسئلة الإبداع والتّجريب" الذي أهداه لي الصّديق إبراهيم الحيسن، منسّق النّدوة الدّوليّة التي صدر على إثرها الكتاب، جملة من الاشكاليّات التي تتصل بالفهم الاجتماعي والتاريخي للظواهرالابداعيّة المتعلّقة بالفن في العالم العربي وذلك من قبيل أسئلة الهويّة البصريّة والجذور التراثيّة والمرجعيّات الرّمزيّة في الثقافة التشكيليّة... وهو القائل: "الرّموز التي توجد على رقعة العالم العربي ليست كلّها عربيّة. رموز تعيش مع الإنسان العربي يتبادلها مع الآخرين دون أن يفهم معناها لكنّها مكوّن أساسيّ لهويّته البصريّة. هذه الرّموز ورثها عن حضارات سابقة عن الإسلام، فينيقيّة، رومانيّة، بابليّة، كنعانيّة، أمازيغيّة، إفريقيّة...إلى غير ذلك من الحضارات التي تبنّتها الثقافة العربيّة وأصبحت مكوّنا أساسيّا من مكوّناتها".
وأنشغل هذه الأيام بقراءة كتاب النّاقد والفنّان المغربي الصّديق عزيز أزغاي، الذي تعرّفت عليه في ندوة بالشارقة: "التشكيل وخطاباته، تطوّر الخطاب النّقدي حول الفنّ التشكيلي في المغرب"، حيث يقول: "... سنجد أن الإنسان قد حرص على جعل الحدود الفاصلة بين الفنّ كمنجز إبداعي متحقق، والنّقد الفنّي كرفيق مسار لفعل الخلق هذا، تكاد تكون غير بارزة تقريبا، جرّاء التّداخل الذي بات يحكم علاقتهما في الخطاب الجمالي، إلى أن أصبحت صلة النّقد بالفنّ صلة وثيقة وغير منفصلة".
هكذا، عرفت المغرب، إنّه كيان فكري وإبداعي أسهم في تنمية الفكر والذّائقة الجماليّة وفي خدمة الذّكاء الإبداعي الخلاّق والقيم الإنسانيّة بالعالم العربي وخارجه.
هل يُمكن أنْ نستلهم هنا عبارة محمود درويش المُدهشة: الطريق إلى البيت أجمل من الوصول إليه. كيف كان طريقكم إلى المغرب؟
لا. لا يمكن أن نستلهم، فقد كان الطريق إلى الدّار البيضاء جميلا، حيث كنت ذات أفريل سنة 2000 متشوّقا لرؤية المغرب، الدّار البيضاء، باب مراكش، السّاحة الكبرى حيث الحمام يرافق النّاس من المارّة وأكاد أقول يشاركهم حديثهم وقصصهم... كنت في الطّائرة صحبة الفنّان التشكيلي الحبيب بن سلطان بدعوة من الفنّان النّحات التونسي المقيم بالدّار البيضاء الصحبي الشتيوي للتّعرف على مسيرته الفنيّة وزيارة ورشته الرّائعة بهذه المدينة، قبل أن أعدّ مقالات عن منجز هذا الفنّان وبعض الوثائقيّات التلفزيونيّة بتونس... كنت مسلّحا بما قرأته وما شاهته من فنون المغرب ومعمارها... ولكنّ الوصول إلى المغرب كان أجمل، حيث عشت عن كثب عديد المواقع التي تّصنع فيها القيم الثقافيّة والإبداعيّة وهي شديدة الصّلة بالحياة، بالزّمن الحي، بحياة النّاس.
ما الرؤى والاستيهامات، التي اجتاحت مُخيّلتكم ورافقت رحلتكم صوب المغرب؟
كلّ ما يتعلّق بالإنسان في أمنه وسلامه وحبّه لقيم العمل والأرض... نعم، هناك من الشّباب في المغرب من يحلم بالهجرة إلى إسبانيا. ولهذا الأمر مبرّراته وإشكاليّاته الأساسيّة، بما يشترك فيه هؤلاء مع بقيّة شباب المغرب العربي. وهو من الملفّات الحارقة التي فرضتها بعض الفجوات في السّياسات والبرامج التّنمويّة منذ الاستقلال وبناء الدّولة الوطنيّة، بتونس كما بالمغرب كما أنّه يتفاقم يوما بعد يوم مع استتباعات العولمة وتباعد مفاصل الخارطة الجيوسياسيّة بين الشمال والجنوب.
هذا واقع مشترك، يحثّ على التّفكير باتجاه تعديل البرامج من أجل الحفاظ على الطاقات البشريّة ورعايتها وتثمين مستطاعها داخل أوطانها في كافة المنطقة... ولكنّ أهمّ الصّور التي شدّتني في الرّباط في سبتمبر 2019 هي مدى التفاف الناس حول بلدهم ورايتهم ومدى حضور الإنسان في العلاقات الاجتماعيّة... هذا فضلا عمّا لاحظته من معالم الحضارة ومن رفعة القيم العمرانيّة في خارطة المدينة، سواء في واجهتها الحديثة أو في واجهتها التراثيّة... المغرب بلد مضياف، يحترم زائريه والمغربي يبتهج لرؤية شقيقه العربي في مدينته. وهذا لاحظته وعشته.
شكّل المغرب حلقة هامّة ضمن مسار تحديث الثقافة العربيّة المعاصرة، لما ظلّ يلعبه من دورٍ فعّال في تقوية أواصر السؤال والصداقة والفكر مع المشرق العربي. من موقعكم البحثي/ الأدبي/ الفنّي، كيف ترون وتُقيّمون راهن الثقافة والفنون في مغرب اليوم؟
ما زلت أذكر ذلك الحوار الشيق (هو حوار أكثر منه خصومة ثقافيّة) الذي دار بين عابد الجابري من المغرب وحسن حنفي من مصر، بجريدة اليوم السّابع أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، وكنّا ننتظر تطوّراته كل أسبوع، وقتذاك. كان الجابري منتصرا للقيم العقلانيّة المستفادة من فكر أبي الوليد ابن رشد وفلاسفة الأندلس وابن خلدون وغيره من روّاد الفكر العقلاني بالمغرب العربي، على نحو ما ورد في كتاب الجابري الشهير "بنية العقل العربي" أو "نحن والتّراث" الذي سبق وأن ذكرت.
فيما كان حنفي ممثّل المعسكر المشرقي، بدءا من ابن سينا. ورغم اقتناعي بأنّ مثل هذه الحوارات الثنائيّة لا تخلو من شرّ الاختزال والأحكام المسبقة والتّصنيف ما بين لونين متضاربين لا ثالث معهما (وهو من العوائق الإبستيمولوجيّة)، إلاّ أنّ لهذا التّراكم الثنائي فوائد مهمّة، على الأقل لأنها تثير التفكير الجدلي ونشط المشهد الثقافي العربي بما يتيسّر من الأفكار والمواقف النّقديّة، من هنا أو من هناك، وهي فرصة ثمينة للفهم والتّقويم والنّقد والمطارحة المعرفيّة حول أسس الثقافة العربيّة ومقوّماتها المشتركة وقيمها المؤسّسة ومجمل الإشكاليّات التي تتخبّط فيها.
هذا النّوع من المواد الفكريّة في وسائل الإعلام أصبح محتشما اليوم، إن لم أقل غائبا والحال أنّه معترك ولاّد للمفاهيم والفكر النّقدي ومنشط للتراكم ومقارعة الرّؤى بعضها ببعض. على أنّي أحيّي بعض التّظاهرات المهمّة التي تنتظم سنويّا وهي تظاهرات جامعة، مثل التي تنظمها جمعيّة كاميليون للفنون التشكيليّة بالمملكة المغربيّة، وقد استضافتني مشكورة منذ سنتين لتقديم محاضرة حول راهن الفنون التشكيلية بالبلاد العربيّة، ما بين قاعة المعرض والفضاء الرّقمي على شبكات الميديا...
هذا، وأتابع اليوم بعض التّجارب الفنيّة في مجال الفن المعاصر بالمغرب من قبيل فؤاد الشردودي وكنزة بن جلّون وعبد الله الهيطوط وريم اللّعبي... وفي السّينما، كانت فرصة اللّقاء والحوار مع المخرج المغربي ذي الحضور العالمي سهيل بن بركة ،إثر العرض الأول بالعالم العربي لفلمه الحدث "من رمل ونار " وهو من أهمّ الأفلام التي شاهدتها سنة في السنوات القليلة الأخيرة (عُرض بفرنسا لأول مرّة في 18 سبتمبر 2019)، حول موضوع الاستشراق والجوسسة وبواكير الاستعمار الأنجليزي والفرنسي والإيطالي للمغرب والمشرق ومسائل تخصّ الأرض والهويّة والتراث والمخطوطات والمعمار والمشاعر المتضاربة ومفارقات الكائن الإنساني العجيب الذي لم يتمكن إلى اليوم من تحديد ماهيّته كما قال نيتشه.
أنجز الفيلم في خمس سنوات بمشاركة ممثلين من جنسيات مختلفة بعضهم من أبطال تيتانيك. فيلم من الوزن الثقيل، علما وأن الرّجل من تلامذة كبار المخرجين الطليان... التقيت بسهيل بن بركة مباشرة بعد العرض وخلال حوار مع الجمهور والصحافة الدولية بحضور وزير الثقافة المغربي. كان ذلك منذ ثلاث سنوات بقاعة عروض متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر بالرباط، حيث كنت قدّمت محاضرة حول إعادة تحديد مفهوم الفن Redéfinir l'art قبل عرض الفيلم. علما وأن سهيلا يحتفظ بذكريات جميلة جمعته بالمؤسّس الطاهر شريعة وغيره من صنّاع الثقافة السينمائية بتونس وإفريقيا ضمن أيام قرطاج السينمائية، سنوات خلت. إنّ فيلم "من رمل ونار" (Du sable et du feu)، إضاءة للمناطق اللامغزوّة في عمق الكيان... وورقة عمل إبداعيّة من أجل مستقبل منشود للعلاقات الاستراتيجيّة والإنسانيّة بين الشمال والجنوب.
وطبعا، لا أنسى أحد روّاد المسرح العربي وهو الطّيب الصّدّيقي الذي كانت له جولات وطروحات ومواقف مهمّة على هامش مشاركاته في تونس وخاصّة من خلال مسرحيّته الشهيرة "قفطان الحبّ المرصّع بالهوى" وكذلك المؤلّف المسرحي عبد الكريم بالرّشيد، رائد "المسرح الاحتفالي"، الذي شاهدت له بعض المسرحيّات التي أنتجت في إطار المسرح الوطني التونسي... وفي الموسيقى حريّ بي أن أذكر ثراء الفنّ الغنائي المغربي. وما زالت أنغام حميد الزّاهر وعبد الوهاب الدّوكالي وعبد الوهاب بالخيّاط ونعيمة سميح ولطيفة رأفت تُتداول في الإذاعات التونسيّة، فضلا عن موجة الأغاني الملتزمة سنوات السّبعينات خاصّة.
هل شعرتم يوماً بأنّ الثقافة المغربيّة، تُعدّ امتداداً عميقاً لباقي الثقافات الأخرى المُنتَجة بالعالم العربي، بحكم ذلك التمازج المُتوهّج الذي رافقها منذ سبعينيات القرن الـ20؟
لا أقول امتدادا، بل مثاقفة وتفتّح ضمن حرك التأثر والتّأثير. المغرب بلد متفتّح (ولا أقول منفتحا صراحة)، متفتّح على ما يمكن أن يخدم مصالحه الاستراتيجيّة لدى الشعوب الأخرى، ومن ذلك استقطاب الاستثمار الاقتصادي. وهي خيارات قد ساعدت عليها حتميّات المرحلة ورهانات خارطة القوى ومقتضيات "العيش معا"، لا محالة. وذلك موضوع آخر. بقي أنّ المغرب، في تقديري، بالتّوازي مع ذلك، وأقصد المغرب الثقافي، بلد يحافظ على تراثه الرّوحي ويثمّن مكتسباته الثقافيّة وكل ما من شأنه أن يمثل مقوّمات وجوده.
ما مدى تأثير الإنتاج المغربيّ على خصوصيات ثقافتكم، فكراً وأدباً وفناً؟ وهل تعتقدون أنّ ملامح هذا التأثير، تبدو بارزة وبشكلٍ قويّ داخل ثقافتكم وفنونكم في الحقبة المعاصرة؟
في الحقبة المعاصرة، كما تقول، يصعب الحديث عن فنوننا وفنونكم وفنونهم... إنّ مطلب الكونيّة في الانتاجات المعاصرة، كما في مثال ما يسمّى بالفنّ المعاصر (AC)، قد جعل من الثقافة الفنيّة مجالا لإضاءة ما هو مشترك إنساني... هناك سعي لتذويب الذّاتيات الخصوصيّة. بل حتّى أكثر الأعمال التي تستثمر التراث المحلّي وتوظّفه ضمن خطابات وتجارب ما بعد الحداثة، إنّما تسعى إلى البحث فيه عمّا هو ثوريّ وانقلابيّ ومستقبليّ يخصّ كافة البشر. أجل، هناك شيء من هذا يقع طبقا لرهانات خارطة التّرويج. لم يعد التّرويج الثقافي من السّذاجة بمكان، بحيث يسعى إلى تضخيم بعض الصّور الفولكلوريّة المغرقة في الخصوصيّة، تحت عناوين محليّة وفي ظلّ الرّاية الوطنيّة... بل أصبح التّرويج معولما بما يكفي لتنميط القيم وسلعنتها، في ظلّ الثورة الرّقميّة... ومن ثمّة، هناك اليوم اشتغالات على إعادة تكييف المكتسبات الرّمزيّة الثاوية في الثقافات المحليّة، وفق تصوّرات استهلاكيّة تستجيب للرّغبة والشهوة وتطلّعات السّعادة لدى الانسان في العالم. هناك تحوّلات في منظومة القيم وهي في علاقة بما يمكن أن يجعل الإنسان "سعيدا" وأيضا لامباليا بمشكلاته الوجوديّة، مقابل أكثر ما يمكن من الأموال.
لقد انتهت صورة الجمل الذي يشرب قارورة كوكاكولا، كبطاقة بريديّة تونسيّة ومعلّقات في الموضوع، كانت موجودة في وكالات الأسفار... بل انتهى زمن البطاقة البريديّة أصلا. وبالتّوازي، انتهى اختزال حضارة المغرب وتاريخه في صورة الكوبرى التي ترقص على مزمار صاحبها في ساحة الفناء بمرّاكش... اليوم، يقتضي الأمر في حضارة الصّور الآنيّة والرّقمنة التي اجتاحت نمط الفكر والعيش والسّلوك وأشكال التّواصل، أن يغيّر المزمار أنغامه وأن تغيّر الكوبرا رقصتها وأن تتغيّر كافة عناصر هذه السّينوغرافيا، باتجاه اللّحاق بقيم الابداعيّة والابتكار والتّجديد بل والاسهام فيها قدر المستطاع. فإمّا أن نقول وجودنا في هذا الزّمن التاريخي الرّاهن بحسب مقتضيات قوانين اللّعبة التي يتوجّب أيضا أن نكون صانعين لها، وإما أن تبتلعنا حزمة الرّموز التي توارثناها، فنظلّ إذّاك صورة فولكلوريّة، قد تبدو مثيرة للغرابة في كثير من الأحيان، ولكنّها على هامش التّاريخ... ولم أتحدّث بعد عن الذّكاء الصّناعي اليوم، كعنوان لصناعة ما بعد الإنسان الثقافي وكمقياس للتقدّم أي للهيمنة الثقافيّة والاقتصاديّة.
لكنْ، حين تسمعون المغرب، ما أوّل شيء يتبادر إلى أذهانكم؟
قلت من أوّل وهلة: الفكر التّاريخي وبناء العقل النّقدي... أي "بلد العقل التّاريخي" ويقولون أيضا على العكس من ذلك "بلاد السّحر والعِرافة" و"الخرافات القديمة" وهي صورة لا تستهويني ولم أزر المغرب من أجلها. لقد صنعت صورتي عن المغرب (وربّما تقول لي بالأحرى، صورة المغرب بذهني)، انطلاقا ممّا قرأت وشاهدت وكتبت بنفسي وانطلاقا من المستندات العلميّة ذات الطبيعة السوسيولوجيّة والتاريخيّة التي حثّني على الاطلاع عليها ودراستها الدّكتور ونّاس، بجامعة تونس، وهو الذي أفنى عمره في دراسة المسألة الثقافيّة بالمغرب العربي... فالقراءة ليست تلقيا سالبا وكذلك المشاهدة، إنّهما صياغة لموقف وفعل في الصّورة. وكذلك البحث العلمي، ليس مجرّد نقل سالب للأفكار. لذلك أفضّل الصياغة الأولى، أي الصّورة التي أكوّنها "أنا"، "بنفسي" عن المغرب.
على أساس ما عشته في النّص وخارجه، أي في الحياة. وتشمل هذه الصّورة علامات من المدرسة المغربيّة في الفكر الفلسفي والإنسانيّات مثل الأنتروبولوجيا، يكفي أن أضيف أعمال عبد الكبير الخطيبي والسّجلماسي وما قدّماه في مجال السيميولوجيا إلى جانب سعيد بن كراد الذي أهداني سنة 2018 بصفاقس نسخا من مجلّة "علامات" التي يشرف على إصدارها، كما وجّهت له دعوة للإسهام في مجلّة "فنون" التي ترأست تحريرها ... وفي الصّورة أيضا ألوان من الفن التشكيلي بالمغرب من شعايبيّة إلى الشرقاوي والغرباوي مرورا بـ عمر أفوس ومحمّد القاسمي وسعد بن شفاج وسبق وأن كتبت نصوصا عن مسيرة محمّد النّبيلي، الذي تحتفظ "مجموعة صدربعل" التّونسيّة بعديد لوحاته في ضاحية ياسمين الحمامات، فضلا عن إعداد حصّة تلفزيونيّة سنة 2000 حول فنّه بل وكنت قد قدّمته سنة 2018 إلى جمهور قاعة العروض الكبرى بقصر بلديّة باريس، في إطار خطّة كوميسار لمعرض دوليّ هناك.
لا ريب، كانت هناك تفاعلات ثقافيّة حيّة بين تونس والمغرب (وأرجو ألاّ يبقى ذلك في صُحف "كان يا مكان")، وفضلا عمّا ذكرت من صولات وجولات الطيب الصّديقي وعبد الكريم بالرّشيد بتونس في مجال المسرح، ها أنا أتابع إبداعات فنّانة النّسيج المغربيّة أمينة السّعودى حرم بن الشيخ، في مدينة أكّودة التونسيّة، وأتابع بالمقابل إبداعات الفنّان التونسي محمّد بن عيّاد بالغرب، مرّاكش والدّار البيضاء وكذلك النّحات الصحبي الشتيوي... وفي كتابي "عمارة الرّؤية في مدينة الرّسام نجيب بالخوجة، محاولة في تكوينيّة الشكل الفنّي وتحوّلاته" (تونس 2007)، كنت قد تعرّضت بشكل مستفيض إلى معرض بالخوجة في المغرب سنة 1973، هذا المعرض محطّة مهمّة في مسيرة الفنان على الأقل من التقنية التي تميّز بها وهي قائمة على التّلصيق أساسا والمونوكروم... على نحو ما ورد في الحوار المطوّل الذي أجراه معه الناقد المغربي مصطفى النيسابوري، وقتذاك، بجريدة "مغرب أنفورماسيون". كما تناولت في كتابي "مسار التّحديث في الفنون التشكيليّة"، صفاقس 2020، مسيرة الفنان المغربي محمّد المليحي في مجال التعاطي الإبداعي مع منظومة العلامات المعماريّة والهندسيّة... كما سبق وأن تطرّقت في بعض النّصوص إلى المرحلة المغربيّة التي طبعت مسيرة الفنّان التشكيلي التونسي عادل مقديش، زمن إقامته بالمغرب سنوات السّبعينات وبداية الثمانينات... من خلال هذا النّماذج يتبيّن فعلا أن المغرب موجود في تونس وكذلك تونس في المغرب، بما يخصب الرّؤى الإبداعيّة بين الجانبين.
هل تعتقدون أنّ الصُوَر والرؤى والتمثّلات، التي نُكوّنها عن بلد ما، تكون صادقة لحظة الاصطدام بالواقع الحقيقي وعاداته وتقاليده وثقافته وفنونه؟ (هذه التمثلات هي التي توجّه صياغة صورة البلد عند زيارته. نحن لا نرى إلاّ ما هو موجود في أفق الانتظار)؟
أقدّر فعلا، أنّ ما شهدته على أرض الواقع هو تصديق لما أكوّنه من تمثلات وإثراء لها. فأنا ذات واحدة، وهي من يقرأ أو يستقرئ أو يتمثل أو يشاهد الواقع أو يعيشه. وبين هذا وذاك إنّما أطوّر رؤيتي، أدعّمها أو أعدّلها أو أثريها... مثلا، كنت أعرف الفنّانين من خلال إنتاجاتهم وأسايبهم وتقنياتهم وكل ما يتّصل بالعمل الفنّي ومقوّماته الدّاخليّة... ولكن عندما زرت بعض المعارض المدعومة من بعض البنوك بالمغرب وكذلك من بعض الهياكل النّاشطة في الترويج، اكتشفت أن للمغرب مؤسّسات ترعى الفن التشكيلي ومن ثمّة فهو مرشح لتطوير مفهوم لسوق الفنّ، على نحوٍ ما، على شاكلة ما يوجد في أوروبّا مثلا. وهذا مهمّ، على الأقل لأنّه يؤكّد أن في المغرب إطارا تشريعيّا ملائما ومحفّزات لاستثمار الخواص في الفنون. ومن ذلك، أذكر على سبيل المثال "معرض "100 عام من الإبداع الفنّي في المغرب، 1906-2006" من تنظيم وتوثيق المؤسسة المغربيّة للأعمال والأغراض الفنيّة (CMOOA). ومن التقاليد الجميلة التي لاحظتها أنّ خدمة الفنون ليست من شأن الدولة فقط، أو وزارة الثقافة، بل البنوك والمؤسّسات المالية من خلال تنشيط ثقافة الرّعاية... وهي من التقاليد غير الموجودة أو غير الشغّالة في عديد الدّول بربوعنا. مثل هذه المؤسّسات من شأنها أن تجعل الفنون متغلغلة أكثر فأكثر داخل الضّمير الثقافي والاجتماعي للمجتمع ومشاركة في صياغة ملامح الرّاهن التاريخي.