اعتبر عزيز غالي أنّ مكان الأساتذة هو حجرات الدرس وليس الأزقّة والشوارع، لأنّ ذلك سيُؤثّر لا محالة على التلاميذ، لأنّ ذلك سيُساهم في تأخّر موعد الدخول المدرسي. وهو رأيٌ صائب أو في على الأقلّ بعض من الصحّة، خصوصاً بعد سلسلة الإضرابات التي قام بها الأساتذة والنقابات التعليمية السنة الماضية والتي لعبت دوراً سيئاً على المسار التعليمي للتلاميذ خلال السنة المنصرمة. وبالتالي، فإنّ تأخّر الدخول المدرسي سيُؤثّر على بداية السنة الدراسية ويجعلها هشّة ومعطوبة قبل أنْ تبدأ. لكنْ بما أنّ المندوبية السامية للتخطيط فتحت باب الترشيح لتغطية الخصاص الكبير الذي يعاني منه مجال الإحصاء في المغرب، حتّى تسير العملية بشكل صحيح وتدريجي وفعّال، أين المشكل إذا شارك الأساتذة في ذلك، مع العلم أنّها ليست المرّة الأولى التي يُشارك فيها رجال التعليم في الإحصاء؟ فقد أكّدت تجارب سابقة أنّ رجال التعليم لعبوا دوراً كبيراً في إنجاح كلّ محطّات الإصلاح وبالتالي يجدون المشاركة في إحصاء 2024 عادياً وغير بعيدٍ من الناحية العملية عن المجال الذي يشتغلون فيه، وذلك بحكم أنّ أهل التعليم لهم القدرة على التواصل مع الناس في منازلهم وتحقيق حوار فعّال يضمن سير ونجاح هذه العملية التي تعتبر السابعة في تاريخ المغرب.
شخصياً، يبدو لي هذا الجدل غير صحيٍّ بالمرّة وذلك لأنّه غير مبني على معرفة وتأمّل وتفكير، بل هو مجرّد نقاش عمومي سطحي حول مشاركة فئة من المجتمع من عدمها في عملية الإحصاء. مع العلم أنّ الطريقة الإدارة المُحايدة التي اقترحت بها الجهة الوصية على الإحصاء، لم تُحدّد طبيعة المشاركة في هذه العلمية وتركت الأمر مفتوحاً داخل المجتمع من أجل إنجاح ذلك. إنّ نعت الأساتذة بـ « العطاشة » وأنّهم سيشتغلون بعد الإحصاء في موسم قطف الزيتون، هي عبارات لا أخلاقية ولا ينبغي أنْ تقال لأيّ طرف كان. خاصّة وأنّ مشاركة الأستاذ لن تُضرّ بأيّ شخص من المجتمع بما فيها التلاميذ. والحال أنّ كلّ الذين انتقدوا هذه المشاركة ظلّت آراءهم تنبني على الجانب المادي ولم تُحلّل المسألة أو تُفكّك مدى آثار ذلك على القطاع التعليمي.
إنّ التفاهة المقنّنة التي تكتسح الأخضر واليابس على السوشل ميديا، تُفاقم من حدّة هذا الجدل وتُساهم بشكل يوميّ في تمريغ كرامة الأساتذة على الأرض. إنّ غياب المثقف من النقاش العمومي، هو الذي يُساهم في ولادة هذه الوجوه على وسائل التواصل الاجتماعي، مُعتمدة كلّ أشكال العنف الرمزي وانحطاط القول للتعبير عن رأيها في هذه المسألة لدرجةٍ يبدو فيها المجتمع ضد رجل التعليم.
ليس من حقّ أيّ مواطن أو مثقف أو حقوقي أو فنان أنْ يُلصق بالأستاذ صفة « العطاش » ولا العكس أيضاً. وذلك لأنّ النقاش العمومي له أخلاقياته، فمثل هذه العبارات « السوقية » ليست وليدة الحقل الثقافي التعليمي وإنّما دخيلة عليه من سراديب الأحزاب ومستنقعات التواصل الاجتماعي ويتم إعادة توظيفها والصاقها ببعض فئات المجتمع، سواء الأساتذة أو المحامين أو غيرهم.
لكنْ في مقابل ذلك، لم نرى أيّ تدخّل من الجغرافيين والباحثين في الإحصاء من أجل شرح كيف تتم هذه العملية وما وظيفتها وكيف يستفيد المغرب منها وما الطرق الجديدة التي تقوم بها المندوبية لتسريع عملية الإحصاء وضبطها داخل المجال العام؟ لكنْ في مقابل ذلك خرج آلاف من « الحاقدين » يُعبّرون عن سخطهم من مشاركة أسرة التعليم في هذه العملية، معتبرين أنّ السبب الحقيقي وراء هذه المشاركة يتمثل في التعويض المادي لا أكثر.
لستُ هنا أنحاز إلى الأستاذ ضدا في المجتمع وإنّما لا ينبغي أنْ يتحوّل نقاشنا العمومي الوطني إلى نقاش « طفولي » تعمل فيه كلّ جهةٍ على مواجهة الطرف الآخر بالحقد والسب دون الوصول إلى أيّ نتيجة. ولم يتوقّف الأمر عند « العطاشة » بل هناك من تفطّنت مخيّلته ليقول بأنّ الأساتذة بعد الإحصاء لن يعودوا إلى أقسامهم وإنّما سيلتحقون بالفلاّحين لقطف الزيتون في البوادي.
والحقيقة أنّ التنكيل بالأستاذ وتشويه سمعته موضوع قديم ولا يرتبط بالإحصاء، بحيث تُطالعنا منذ تسعينيات القرن الماضي العديد من النكت الساخرة التي تستهدف الأستاذ وتحُطّ من قيمته أمام مهنٍ أخرى وتحاول في عمقها السياسي أنْ تضرب أساتذة الأجيال القديمة بعدما أحسّت المؤسّسات بقدرته على التأثير في المجتمع خلال سبعينيات القرن الماضي من خلال المؤسسات التعليمية التي كانت تنتج سنوياَ عشرات الإضرابات.
مشاركة الأساتذة في الإحصاء حق أتاحه لهم القانون ويحقّ لهم العمل بحرية شريطة الخضوع لكافة المستجدات والمقترحات التي قد تفرضها وزارة التعليم عليهم بعد رجوعهم إلى حجرات الدرس من باب الدعم والتقوية وتعويض الحصص الضائعة..