يستغرب المرء في كون هذه الإصلاحات منذ سبعينيات القرن العشرين لم تُحقّق أيّ شيء يُذكر على الرغم من أصالتها أحياناً. ذلك إنّ السياسات الدائمة للإصلاح لم تؤثّر في البحث العلمي، ولم تؤثّر في كيفيات إنتاج الخطاب المعرفي داخل فضاء الجامعة. لذلك فلا غرابة أنْ تعاني الجامعة اليوم من فراغ مهول على مستوى البحث العلمي، إذْ رغم اللقاءات والندوات لم يستطع الفضاء الجماعي تأصيل مشروع البحث العلمي وجعله قضية أساسية بالنسبة لأيّ باحث. فغالباً ما يربط الباحثون وجودهم داخل الجامعة بعملية التدريس والتلقين ويتناسون مهامهم على مستوى البحث العلمي.
فهذا الأخير، هو ما يُميّز رجل الجامعة ويجعله باحثاً مُنتجاً للأفكار وليس مُلقناً لمعلومة، لم يعُد الطالب يجد أيّ صعوبة في البحث عنها. ففي السنوات التي خلت رغم قلّة الإمكانات المادية مقارنة باليوم، لم يكُن مشكل البحث العلمي مطروحاً على الإطلاق. ذلك إنّ كل المفاهيم والأفكار والمواقف خرجت من رحم الجامعة واخترقت جسد المجتمع وساهمت إلى حد كبير في تقديم صورة مذهلة عن وضعية الثقافة المغربية الحديثة في العالم.
أعتقد أنّ مشكلة البحث العلمي غير مرتبطة بالجانب المادي خاصّة داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وذلك لأنّ المعرفة يُحركها الشغف وحاجة المرء إلى الحقيقة. أغلب من يتحدّث عن مأساة البحث العلمي يرجع ذلك إلى ضعف الميزانية المخصصة لهذا الغرض. في حين أنّ الباحث داخل الجامعة يمتلك من الوقت ما يجعله يُؤلّف كتباً ويكتب دراسات ويُنظّم ندوات ولقاءات، مع أنّ لا شيء من هذا يحدث إلاّ داخل فئةٍ قليلة ممّن تعتبر الكتابة والتأليف والبحث العلمي عملاً يومياً لها، بعيداً عن أيّ سلطة لمؤسسة سياسية أو ثقافية. أغلب هؤلاء الجامعيين الذين يُنيرون رحابة الفضاء الجامعي تعرّف عليهم القارئ من خلال ما كتبوه من مؤلفات وليس انطلاقاً ممّا قدّموه من دروس في موضوعات عامّة داخل المدرّجات.
فئة قليلة داخل الجامعة تكتب وتبدع وتحاضر وتشرف على بحوث الطلبة، في حين أنّ الفئة الغالبة تفضّل عملية تلقين الدروس، عاملة كلّ سنة على تكرار الأحداث والمفاهيم والنظريات بأسلوب تقليدي وهشّ. والحقيقة أنّ هذه الفئة داخل الجامعة تُقدّم مثالاً سيئاً عن الجامعة المغربية، بعدما صنعت ماضيها أسماء فكرية كبيرة. اليوم في زمن التقنيات الحديثة لم نعُد في حاجة إلى المعلومة لكونها موجودة في كلّ مكان، لكنّنا في حاجةٍ أفكار حقيقية تخرج المجتمع من الانحطاط الذي يعاني من التأخّر التاريخي الذي يعيش فيه، صوب فضاء كوني يستوعب مختلف التحولات. إنّنا اليوم في حاجة إلى إعادة إحياء دور الجامعة وقيمتها المعرفية والإعلاء من صوت العقل والمعرفة، ضداً في التفاهات المقننة التي تكتسح وسائل التواصل الاجتماعي وتزيد المجتمع بؤساً وغرابة.
مشكلة نظام الإصلاح الجامعي أنّه كلّما جاء إصلاح ما إلاّ ويجبّ الذي قبله، فيجد المرء نفسه أمام سلسلة من الإصلاحات المتداخلة التي تنعدم قيمتها، لا لأنّها لا تُقدّم أيّ جديد يُعوّل عليه، بل لأنّها تتعامل مع الإصلاح السابق وكأنّه غير مُهمّ.