"مونوكسيد الكربون".. قاتل خفي يتربص بنا داخل بيوتنا!

وسائل التدفئة وتسخين المياه قد تتسبب في الاختناق بغاز مونوكسيد الكربون

وسائل التدفئة وتسخين المياه قد تتسبب في الاختناق بغاز مونوكسيد الكربون . DR

في 01/10/2016 على الساعة 01:17

قد يتربص بك وأنت في حالة استرخاء، داخل الحمام، وحيدا أو برفقة أقرب الناس إليك، حيث تباغتك خلسة مخالب قاتل خفي لتخنقك، بدون سابق إنذار، وأنت في غفلة لا تدرك ما يحدق بك من خطر.. إنه القاتل الصامت: غاز "أحادي أوكسيد الكربون". تحقيق.

وسط زغاريد وأهازيج فولكلورية بهيجة، ولجت الشابة خديجة حمام البيت لتغتسل وتهيئ نفسها لليلة الزفاف، بينما واصلت رفيقاتها الرقص والغناء في بهو البيت في انتظارها. برودة طقس تلك العشية دفعت بأم العروس إلى إدخال قنينة غاز إلى الحمام الطيني لتستعين بها ابنتها في تسخين مياه الاستحمام.

مر وقت غير يسير، استغلته البنات في الرقص وترديد الأغاني والأهازيج فرحا بزفاف صديقتهن خديجة، قبل أن ينتبهن إلى تأخرها المريب داخل الحمام، طرقن الباب لكنها لم تكن تجيبهن، وفي لحظة توتر اندفعت إحدى قريباتها بقوة فكسرت الباب لتصدم بهول المفاجأة.. جسد خديجة الفتي ممدد وسط الحمام بلا حراك!

ماذا وقع؟ التحقيق الذي باشرته السلطات المحلية بمنطقة أوزون جماعة أضار دائرة ايغرم إقليم تارودانت، خلص إلى أن خديجة (21 سنة) توفيت نتيجة الاختناق بغاز "البوتان"، حيث امتد إليها خلسة ليخنقها وهي في عز الفرح بليلة العمر.

مصادر من أوساط ساكنة دوار "تانومي" حكت لـLe360 كيف تحول عرس خديجة إلى مأتم بعدما عثر على جثمانها هامدا داخل حمام البيت، ولم ينفع نقلها إلى المركز الصحي بجماعة إغرم في إنقاذ حياتها، بعد أن مكثت داخل الحمام مدة طويلة وهي تنستنشق الغاز القاتل في حالة غيبوبة.

القاتل الخفي

كيف ماتت خديجة؟ للإجابة على هذا السؤال، ينبغي معرفة ما يحدث من تفاعلات كيميائية أثناء وقوع عملية الاحتراق، خصوصا في الأماكن الضيقة والمغلقة، كالحمام مثلا. الدكتورة رشيدة أغندوس، مهندسة رئيسة متخصصة في التسممات بالغاز بالمركز الوطني لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية بالرباط، تشرح في تصريح لـLe360، بطريقة علمية، كيف تتسبب آلات التدفئة وسخانات المياه في حدوث التسممات بغاز أحادي أوكسيد الكربون، وهو غاز عديم الرائحة لا يمهل من يستنشقه أكثر من ربع ساعة إذا لم يتم إسعافه في الوقت المناسب.

هذا الحادث الذي أزهق روح خديجة في عز شبابها، بل في ليلة تتمناها كل فتاة، ليس معزولا.. ورغم اختلاف مكان وزمان تكرار مثل هاته الحوادث إلا أن النتيجة واحدة. فقد لقي عشرات المغاربة المصير نفسه وبالطريقة ذاتها، بمعدل 15 قتيل كل عام، وفق ما تكشف عنه إحصائيات حصل عليها موقع Le360 من المركز الوطني لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية.

وحسب الإحصائيات ذاتها، فقد تسبب هذا الغاز القاتل في اختناق 2825 ضحية خلال العام الماضي (2015)، توفيت منها 7 حالات، بينما أسقط 27 قتيلا من بين 2682 حالة تسمم بالغاز أحصاها المركز عام 2014. وفي العام الذي سبقه (2013) توفي 26 شخصا من أصل 2554 حالة تسمم بالغاز، فيما أزهق أرواح 21 من بين 2346 حالة سجلت خلال سنة 2012.

أرقام المركز الوطني لمحاربة التسمم تنذر بمواصلة هذا القاتل الصامت الفتك بالمغاربة بشكل تصاعدي سنة عن أخرى، حسب ما يظهره هذا المبيان:

© Copyright : Le360

أسباب المآسي

ما إن تنخفض درجات الحرارة حتى يسارع المغاربة إلى الاستنجاد بوسائل التدفئة التقليدية وسخانات الماء التي تشتغل بواسطة الغاز، غير أن استعمال هاته الوسائل لا يخلو من مخاطر، إذ تتسبب في إزهاق الأرواح بفعل تسرب غاز قاتل منها هو أحادي أكسيد الكربون.

وتوضح الدكتورة رشيدة أغندوس، الأخصائية في التسممات بالغاز بالمركز الوطني لمحاربة التسمم، سبب وقوع هاته المآسي قائلة: "خلال استعمال وسائل التدفئة إلى جانب سخانات الماء، يعمل المواطنون على إغلاق جميع المنافذ، فتغيب منافذ التهوية، ما يؤدي إلى نقص في الأوكسجين داخل المنازل، الشيء الذي يؤدي إلى إفراز غاز أحادي أوكسيد الكربون نتيجة الاحتراق غير الكامل، ما يتسبب في حوادث تسمم، قد تؤدي إلى الوفاة".

وتشير إحصائيات المركز المغربي لمحاربة التسمم إلى أن ثلاث جهات هي مكناس تافيلالت وطنجة تطوان وتادلة أزيلال هي الأكثر تأثرا بحوادث الاختناق بالغاز، لكون أهالي هذه المناطق المتأخمة للمرتفعات يلجأون، خصوصا خلال فترات البرد والثلج، إلى الاستعانة بآلات التدفئة، التقليدية منها والعصرية، لمقاومة برودة الطقس.

وتشكل نسبة الحالات التي توصل بها المركز خلال العام الماضي بجهة مكناس تافيلالت 43,9% من مجموع الحالات المسجلة بباقي جهات المملكة (2825 حالة تسمم بالغاز)، فيما بلغت النسبة بجهة طنجة تطوان 14,6% و12,9% بجهة تادلة أزيلال.

اللافت أنه وعلى الرغم من أن سكان القرى هم أكثر استعمالا لآلات التدفئة، إلا أن معطيات مركز التسمم تؤكد أن حوادث الاختناق بغاز أحادي أوكسيد الكربون، تحدث أكثر في المناطق الحضرية، بنسبة 87,5%، وغالبية هاته الحالات تحدث داخل البيوت بنسبة 98,2%، ولكن 90% من هذه الحالات تتم السيطرة عليها إذا تم إسعافها في الوقت المناسب.

ورغم أن هذا القاتل الصامت لا يميز بين رجل أو امرأة، ولا بين صغير أو كبير، لكونه يتربص بضحاياه بشكل خفي إذ لا لون له ولا رائحة، إلا أن الإحصائيات تشير إلى أنه يفتك أكثر بفئة البالغين، بنسبة 62,3%، ثم فئة الأطفال بنسبة 16,7%، فالفئة المتراوحة أعمارها ما بين 16,5 و26 عاما، مع التأكيد على أن الغاز القاتل يحصد أرواح النساء أكثر من الرجال، على اعتبار أن أسباب هذه الحوادث تكون مرتبطة إما بسخانات الماء أو الفحم، وبالتالي، وهما الوسيلتان المستعملتان بكثرة في المنزل، وأغلبية النساء المغربيات هن ربات بيوت.

وتتوزع الأسباب الرئيسية لحوادث الاختناق بالغاز، حسب معطيات المركز، بين استعمال سخانات الماء، وأجهزة التدفئة التي تشتغل بالغاز أو الفحم (المجمر)، حيث أن سخانات الماء و"المجمر"، يأتيان في مقدمة الأسباب المؤدية إلى وقوع هذه الحوادث.

سخانات قاتلة

حوادث الاختناق بالغاز تقع طيلة فصول السنة، بيد أنها ترتفع بشكل ملحوظ خلال فصلي الخريف والشتاء، خاصة في شهري دجنبر ويناير، إذ تكون الحرارة منخفضة خلالهما، ما يجعل المواطنين يلجأون بكثرة إلى استعمال وسائل تدفئة تقليدية مثل المجمر، أو أجهزة أخرى تشتغل بالغاز.

مصطفى، طالب عشريني من حي سيدي مومن بالدار البيضاء، سبق له أن نجى بأعجوبة من قبضة هذا القاتل الخفي، ورغم أن حادث اختناقه في حمام بيته مضى عليه أسبوعان، إلا أن فرائصه ما لبثت ترتعد وهو يحكي لنا تفاصيل الواقعة التي كادت تتحول إلى مأساة: "ما عرفتش كيفاش وقع ليا، كنت كندوّش فالحمام ديال الدار حتى لقيت راسي فالصبيطار دايرين ليا قرعة الاكسجين..".

يتوقف مصطفى عن الكلام برهة، مظهرا عجزه عن تفسير ما وقع له ذلك اليوم، قبل أن يسترسل متحدثا: "ملي شعلت سخان الما وبديت كندوّش، حسيت بالضيقة وبدات الارض كدّور بيا.. ديك الساعة طحت على راسي وما فتحت عيني حتى دّاوني للصبيطار". هنا يرفع الشاب كفيه إلى السماء شاكرا الله على إنقاذه من موت محقق، إذ يقول إن شقيقه الأكبر سمع دويّ السقطة على أرضية الحمام.. فسارع إلى نقله إلى المستشفى، حيث جرى إسعافه في الوقت المناسب.

ما وقع لهذا الشاب يؤكد أنه يصعب اكتشاف الضحية لتربص مونوكسيد الكربون به سواء من خلال الرائحة أو اللون، كما أن التسمم الناتج عنه لا يترك له الفرصة لكي يستوعب ما يحدث له، إذ يؤدي بسرعة إلى حدوث اضطرابات تنتهي بفقدان الوعي، ما يمنع المصاب من الخروج من المكان الذي يحتوي على هذا الغاز.

وعلى غرار ما وقع لمصطفى، تظهر بين الفينة والأخرى قصص مأساوية لأشخاص قضوا بسبب سخانات الماء المنزلية، بل إن أسرا بكاملها انتهت حياتها فجأة بسبب سوء استعمال هذه السخانات، والسبب يتمثل في الغالب في عدم احترام شروط السلامة خلال تركيب السخان في المكان المناسب بالمنزل، وعدم إعطاء أهمية لصيانة هذا الجهاز بشكل دوري، ما يؤدي إلى تسلل الغاز خلسة لخنق الضحايا أثناء الاستحمام...

عبد الرحيم، اختصاصي في إصلاح وصيانة الأجهزة المنزلية بعمالة البرنوصي الدار البيضاء، أوضح في حديث مع Le360 أن بعض سخانات المياه المستورد من الأسواق الأسيوية على الخصوص، يفتقر إلى شروط السلامة والوقاية ويعرّض مستعمليه إلى خطر الموت اختناقا، حيث قال وهو يشير بأصابعه إلى سخان كان يمسكه بين يديه بغرض إصلاحه: ""هاد الماركة ديال الشينوا هي لي كادير المصايب.. شحال من واحد رزاتو فحياتو".

وشرع المختص يتحدث بلغة تقنية وهو يفكك أجزاء من الجهاز، ليبين لنا كيف يقع تسرب الغاز من الأنبوب المخصص له إلى قناة المياه، بعد احتراق مادة عازلة، قبل أن يمتد الغاز القاتل إلى المستحم، عبر الصنبور، ليحكم مخالبه الحادة حول عنقه ويخنقه.

© Copyright : DR

من المسؤول؟

في درب عمر، القلب التجاري النابض بمدينة الدار البيضاء، عاين Le360 داخل بعض المحلات التجارية المتخصصة في بيع سخانات المياه، أنواعا كثيرة من الأجهزة التي تحمل أكثر من علامة تجارية، منها المصنعة محليا، ومنها المستوردة من الخارج، تتراوح أسعارها ما بين 800 درهم إلى حدود ثلاثة آلاف درهم. وفي كل مرة نستفسر الباعة عن سبب هذا التفاوت في الأسعار، يعزون السبب إلى "الماركة" المصنعة أولا، ثم إلى طبيعة المكونات الداخلية للجهاز، وكمية النحاس، والأدوات التقنية المعتمدة في التصنيع لضمان أكبر قدر من شروط السلامة.

ويقول أحد الباعة، بنبرة يائسة: "إن الكثير من الناس يفضلون اقتناء الأجهزة الرخيصة رغم عدم توفرها على الضمانة ولا على شروط السلامة، بينما تواجه المنتوجات الجيدة ركودا".

وبرأي هذا البائع، فإن المستهلك هو المسؤول الوحيد عما قد يتعرض له من أخطار إذا اقتنى هذا النوع من الأجهزة الرخيصة، أي غير الجيدة. ويتفق معه في هذا الرأي أحمد، وهو حرفي يمتهن صيانة السخانات والثلاجات بمنطقة بنجدية بوسط البيضاء، إذ يؤكد أن جودة السخانات ذات التكلفة المنخفضة "منعدمة"، بل أكثر من ذلك، يضيف "قد تكون قاتلة بالنظر إلى المواد والمكونات الرديئة التي تدخل في تصنيعها".

ويشدد أحمد، وهو خمسيني أمضى 15 سنة من عمره في هذه الحرفة، على أن أسباب هذه الحوادث هي كون السخانات ذات العلامة الأسيوية لا تتوفر على غيار أصلي وذي جودة وفعالية، كما أن شروط السلامة بعد وقوع تسرب للغاز غير متوفرة خلافا لبعض الماركات التي تلتزم بمعايير السلامة وعلامة الجودة، على حد قوله.

لكنه في النهاية يحمل المسؤولية للمستهلك الذي يُقبل –حسبه- على اقتناء هاته الأجهزة الرديئة من جهة، ولا يلجأ إلى المختص لتركيبها من جهة ثانية.

غير أن بوعزة خراطي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المستهلك، يرفض تحميل المسؤولية للمستهلك وحده في هذا الشأن، إذ يرى أن الدولة تتحمل قسطا من المسؤولية أيضا.

ويوضح خراطي في تصريح لـLe360 أن وزارة الصناعة والتجارة والاقتصاد الرقمي هي المسؤولة عن مراقبة هذه الأجهزة قبل طرحها في الأسواق. وقال إن الوزارة المعنية ملزمة بفرض معايير الجودة على مستوردي السخانات، مع إلزامهم أيضا بتوفير ضمانات أثناء استعمالها من قبل المستهلك.

وفي هذا السياق، يؤكد مصدر من الوزارة المعنية لـLe360 أن هذه المنتوجات مقننة في إطار النظام الوطني المتعلق بمراقبة سلامة المنتوجات الصناعية، والذي يعتمد بالأساس على احترام المواصفات المغربية الإجبارية التطبيق.

ويوضح المصدر ذاته أنه عند استيراد هذه المنتجات، يتم أخذ عينات منها وإرسالها إلى المختبرات المختصة قصد التأكد من مدى مطابقتها لشروط السلامة، قبل السماح لها بولوج السوق الداخلي. وهكذا، حسب المصدر نفسه، لا يسمح للمنتوجات غير المطابقة بدخول السوق المغربية.

التوعية هي الحل؟

بعد أن أبعد المصدر الأخير المسؤولية عن الوزارة، ألقى بها بدوره على عاتق المستهلك، حيث شدد على أن السبب الرئيسي لحالات الاختناق الناجمة عن استعمال سخانات الماء، يرتبط أساسا بالتركيب الخاطئ لهذه السخانات، مشيرا إلى إن "بعض الناس يستعملونها في ظروف غير ملائمة لأسس اشتغالها، داخل أماكن ضيقة تفتقر إلى التهوية الكافية".. الرأي نفسه تزكّيه الدكتورة رشيدة أغندوس، التي تؤكد على أن أسلوب التوعية والتحسيس بين المواطنين، الذي ينهجه المركز الوطني لمحاربة التسمم منذ عام 2008، هو الكفيل بالحد من تكرار مثل المأساة التي وقعت ضحيتها الشابة خديجة، أو على الأقل، التقليل من حدتها، إذ تشير الإحصائيات إلى تراجع عدد قتلى مونوكسيد الكربون من 27 ضحية عام 2014 إلى 7 فقط خلال 2015.

هذه نصائح للوقاية من وقوع التسمم بالغاز، تقدمها رئيسة قسم التسممات بالغاز بالمركز الوطني لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية:

تحرير من طرف ميلود الشلح
في 01/10/2016 على الساعة 01:17