استغرب عدد من الباحثين كيف يمكن لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أنْ تخرج في هذا الوقت، وتأتي بمرسوم وزاري تافه، يناقش تقارير غياب الطلبة داخل فصول الدراسة، في سياق مأزوم تعيش فيه الجامعات الجزائرية بؤساً كبيراً بعدما أصبح الطلبة يستفسرون عن مستقبلهم داخل نظام تعليمي فاشل تغذيه سياسات الكذب وميثولوجيات الإصلاح التي تُلوّح في سماء الجزائر، كلّما اقترب موعد الدخول الجامعي لكنْ بدون أيّ أثر يُذكر.
وفي الوقت الذي كان فيه من المفترض على رؤساء الشعب بالمسالك البيداغوجية داخل الجامعات الوطنية، معالجة قضية الغياب داخل الجامعة، دون تدخل الوزارة عبر مرسوم وزاري، بدا للعديد من المعاينين للشأن التعليمي في الجزائر، كيف تريد وزارة التعليم تمويه الطلبة والباحثين بأمور جزئية قد يتم حلّها بجرّة قلم، لكنّ الوزارة المعنية، تحرص على تضخيم المسألة والظهور بمظهر يجعلها تمتلك مشروعاً إصلاحياً لأزمة التعليم الجامعي، في حين أنّ حقيقة التقارير والبحوث العلمية تُظهر عكس ذلك.
فقد كشفت بعض الأبحاث العلمية التي كُتبت من داخل البلد، كيف غدت الجامعات الجزائرية خارج السباق العلمي داخل المنطقة المغاربية، إذْ لم تعُد الجامعات تنتج النخبة ولا تساهم في خلق دينامية اقتصادية، انطلاقاً من الأعداد الغفيرة من الطلبة الذين يتخرجون سنوياً والذين يكون مصيرهم الضياع أو الهجرة خارج البلد.
حرص هذا المرسوم إلزام الطلبة على الحضور بمختلف المواد الدراسية، لكنْ في نفس الوقت ترك عملية إجبارية الحضور للفرق البيداغوجية. لكنْ بغض النظر عن هذا « الإجراء » البسيط جداً الذي قامت به وزارة التعليم العالي، لا يمكن اعتباره يدخل في باب الإصلاح التعليمي، مادام أنّه يفتقر إلى مشروع رؤيوي يقترح مجموعة من التفاصيل والبندوب المتواشجة فيها بينهما والتي تكوّن إيقاعاً منتظماً لعملية الإصلاح التعليمي، بدل أنْ يغدو المرسوم الوزاري أشبه بخاطرة شعرية رنانة ولكن في الوقت نفسه فارغة، من أيّ مجهود فكري ولا تبشّر بأيّ نيّة على مستوى الإصلاح الجامعي.
لقد أصبحت الجامعات الجزائرية تعاني من اختلالات بنيوية عميقة على مستوى التدبير والتسيير والمناهج والتوجيه، وهي عناصر علمية لها أثرها الكبير على مفهوم الإصلاح الجامعي، بحيث يجد الطالب نفسه يعيش هوة سحيقة بين ما يتلقاه في الجامعات والمعاهد وبين ما يوجد على أرض الواقع، من انعدام فرص الشغل وعدم قدرة الجهة الوصية على تدبير هذا الشأن عبر خلق هندسة بيداغوجية تتأمّل تحوّلات الواقع الاقتصادي اليومي.
إننا هنا أمام إصلاحات فارغة، لا أثر لها على واقع الجامعة الجزائرية، أمام هشاشة الواقع التعليمي بالبلاد والذي جعل العديد من الباحثين في مختلف المجالات ينددون بفشل نظام عبد المجيد تبون، في إصلاح التعليم العالي بالجزائر وعدم قدرته على تقديم وصفة طبية دقيقة للمرض العضال الذي استبدّ بالجسد الجامعي وابتذله أسوأ ابتذال. فقد ساهم ضعف التكوين في الجامعات الجزائرية وارتجاج نظام المسالك والمواد، في خلق مستنقع من البطالة بات يتجرعه الشباب وهم يفكّرون في الهجرة بحثاً عن منافذ جديدة لحياتهم وسيرتهم العلمية.
إذْ رغم وجود طاقات علمية واعدة، فإنها سرعان ما يتم إجهاض أحلامها ودفعها بشكل تدريجي من طرف سماسرة السراب إلى قبول الواقع اليومي بكل نتوءاته، على أساس أنه الواقع الصحيح. هكذا يقضي النظام التعليمي الجزائري الفاشل على العديد من الطاقات الشابة ويعرّضها إلى الموت البطيء، حتى يسرح في جسدها النسيان.
والحقيقة أنّ لجوء الوزارة إلى هذا «الإجراء» الصغير، يشكل هروباً حقيقياً من جوهر فكرة الإصلاح السياسي للمنظومة التعليمية، باعتبارها ضرورة ملحّة في الجزائر ويمليها الوضع الكارثي والمأزوم الذي يتخبط فيه البلد. ورغم حجم الانتظارات اليومية للعديد من الطلبة بخصوص الإصلاح الجامعي، فإنّ الوزارة تتهرّب من تقديم مشروع إصلاحي لجامعاتٍ أصبح يغلب عليها البيروقراطية وتتكاثر فيها المختبرات التي لا تنتج أيّ شيء ولا يسمع عنها أحد أي شيء. لذلك فإنّ المرسوم الذي أطلقته وزارة التعليم العالي، يبق سخيفاً ويفاقم من حدّة البلاهة، أمام حجم انتظارات المجتمع بخصوص إصلاح الجامعات الجزائرية.




