فجأة خرجت علينا كائنات سياسية تبحث عن ترميم ما تبقى من شرفها السياسي والانتخابي. خرجوا يمشون فوق دماء شعب يدافع عن وطنه بينما يدافعون هم عن مقعد انتخابي في البرلمان يعيد إليهم ما غنموه طيلة السنوات الماضية من تعويضات وامتيازات وسُلطة وشعب لفظهم في انتخابات ثامن شتنبر 2021. كبيرهم يتنصل من توقيع « التطبيع » ويحاول تغليط الرأي العام بشأن موقف العدالة والتنمية من العلاقات مع إسرائيل، بينما كان لحزبه أن ينهج الخيار السهل ويقول « لا » مدوية ويستقيل من الحكومة، لكنهم لم يفعلوا. استوزروا ووقَّعوا وغنموا. وإخوتهم في التوحيد والإصلاح وفَّروا منصة لقيادات حماس تحرض فيه المغاربة على النظام، وتدعو إلى المزيد من التصعيد في الموقف! بينما يتظاهر آلاف يوميا ومن كل الألوان السياسية دعما لشعب غزة والمقاومة. بعدها، جاء الدور على « مقرئهم » يُزايد على المغاربة في وطنيهم وإيمانهم بالقضية ويُمني « النفس أن يكون ترابا يمشي عليه مشعل وهنية »! في توصيف رديء لن ينطلي إلا على قطيع من المنبهرين بخطاب يحتاج تحليلا بقواعد علم النفس وليس بمبادئ علم السياسة.
قبل كل هؤلاء دعت إيران الشعوب العربية إلى مواجهة إسرائيل في خطاب تحريضي موجه. رغم أنها منذ الحرب على غزة وهي لا تسمح لحزب الله اللبناني ولا للفصيل المحسوب عليها رسميا في فلسطين، حركة الجهاد الإسلامي، بالتحرك خارج إذنها وحساباتها والقواعد التي رسمتها في الاشتباك مع إسرائيل. حتى الذين انتظروا مشاركة زعيم مليشيا حزب الله صدمتهم مواقف وكلاء إيران الذين تحولوا من حركة عسكرية إلى ظاهرة صوتية ترسل رشقات وتُصدر بلاغات وتصور فيديوهات لـ« بروباغندا » إعلامية، بينما يقاتل الشعب الفلسطيني وحده دفاعا عن أرضه وحقوقه.
من خصائص الخطاب الشعبوي أنه خطاب مناسباتي، فأكبر تهديد يواجه الديمقراطية هو تنامي الشعبوية، وحين تلتحف هذه الخطابات بالدين تصبح كارثة على الأمة برمتها، لأنها تُنتج سلوكيات انتهازية غير منسجمة مع الموقف السياسي الوطني، وتجعل من المكاسب الانتخابية والسلطوية حالة عامة قد تهدم كل القيم والأخلاق وقواعد التنافس الشريف. تهدم الدولة والشعب والثوابت الوطنية.
إن أمل الشعوب في الذاكرة، وذاكرة المغاربة تختزن الكثير من المواقف التي تُدين المتهافتين على شرف انتخابي يلملمونه من بين الضحايا، كما تختزن هذه الذاكرة أصوات آلاف الشباب المغاربة وهم ينشدون العدالة لفلسطين في ملاعب كرة القدم ويتوشحون بأعلامها ويتغنون بالقضية دون تسويق انتخابي أو تمنيات سريالية أو بكائيات كما يفعل بعض قادة العدالة والتنمية اليوم وهم يُمنون النفس أن ينسى المغاربة أن قادته هم من وقعوا وطبعوا. واليوم، تنقصهم الشجاعة الأخلاقية والسياسية ويختبؤون وراء خطابات وشعارات وضجيج في مواقع التواصل الاجتماعي، لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرا!
إن مواقف حركات الإسلام السياسي في العالم العربي معروفة ومنسجمة، لكن هذه الجماعات في المغرب لها حسابات خاصة تبدو مقيتة وساقطة لأنها لا تخرج عن نطاق النظرة الضيقة المفتقدة لحس وطني. بينما يبحث طرف آخر عن تصفية حساباته القديمة مع الدولة بعدما وجد في المسيرات متنفسا سياسيا للجماعة بأطفالها وعائلاتها وقياداتها. الكل وجد في الحرب على غزة ضالته. يعتقد هؤلاء جميعهم أنه كلما علا سقف الشعارات كلما كانت هناك تنازلات. وكلما تحولت الشعارات من أفقها الأممي الفلسطيني نحو أفق داخلي سياسي انتخابي تغيرت موازين القوى السياسية في البلاد. إلى حدود الساعة، تبدو كل هذه التقديرات خاطئة. ويبقى السؤال ماذا يفعل شتات اليسار بين كل هؤلاء؟