البحث الذي اشتغل على تحولات القيم في المجتمع المغربي من خلال دراسة عيِنة شملت كافة جهات المملكة بنحو 1600 مستجوَب، يُظهر قدرة المغربي على إعادة تمثل الأولويات وترتيبها وفق الحاجة إلى العيش المشترك. بالمقابل، تفضح هذه الدراسة ضعف التأثير الذي تُحدثه الخطابات العدمية حول قضايا حقوق الإنسان والحريات في المغرب، والتي يخدم بعضها، في النهاية، أجندات خارجية تستغلها لتدبجها في تقارير وتوصيات غايتها الابتزاز السياسي وإضعاف القرار السيادي الوطني، عبر محاولة ضرب جهود المغرب وتصوير مؤسساته الحقوقية بوظائف صورية.
إن العلاقة بين الأمن والحرية هي المدخل لفهم الحاجة إلى حقوق الإنسان. كل الأنظمة القانونية للدول وضعت قيودا على الحرية حينما يتعلق الأمر بأولوية الأمن. وكثيرة هي التجارب التي رجحت الأمن على قيمة الحرية. فبعد سنوات من اختبار نموذج «التنمية حرية» تبين أن أطروحة «أماتيا صن» استنفذت وجاهتها في ظل تنامي التهديدات الأمنية ومخاطرها على استقرار الشعوب والأنظمة. هذا التحول دفع العديد من الديمقراطيات إلى إعادة بناء عقيدتها الحقوقية على قاعدة الحق في الأمن بما يحفظ كيان الدولة ويدفع عنها مخاطر التدخل الخارجي التي تستخدم أدوات القوة الناعمة مثل المنظمات الحقوقية الدولية وغيرها..
إن الأمن كضرورة اجتماعية للمغاربة مفاده المؤسسات أولا. وبهذا المعنى تصبح الحرب على الإرهاب (مثلا) انتصارا للحرية. والتعبئة المبذولة للحد من المخاطر والتداعيات المترتبة عنه ترمي إلى الحرية وتحصين المجتمع وضمان حقه في الاختلاف، فالأمن وفق هذا التصور لا يلغي الحرية بل يحفظها ويَذود عنها ويُشيعها بين الناس. وقد أسس المغرب لنموذجه الخاص في تدبير ثنائية الحرية والأمن مستندا على مصالحة جماعية كمشروع وطني بدأه منذ نهاية التسعينات.
في العلاقة مع الغرب دأبت المؤسسات الأوروبية على تقديم نفسها كحارسة لقيم الحرية وحقوق الإنسان والسلام والمجتمع الديمقراطي. وهي قيم تحولت إلى أدوات للضغط على الدول قصد حملها على التخلي عما تبقى من نديتها في العلاقات الدولية. حدث هذا فعليا قبل سنوات، حينما ضغطت أوروبا (بموجب ميثاق باريس من أجل أوروبا جديدة في نونبر 1990) على الديمقراطيات الشعبية الموالية للنظام السوفياتي، من أجل تبني نموذج أوروبا الغربية مقابل مكاسب سياسية واقتصادية داخل الفضاء المشترك للاتحاد الأوروبي. بعد سنوات وجدت روسيا نفسها محاصرة فلم يعدها بوسعها إلا التوجه شرقا نحو الصين أو عبر مجموعة «بريكس» للبحث عن حلفاء خارج فضائها الجغرافي الطبيعي.
ضمن هذا السياق، يمكن أن نفهم لماذا التحامل على المغرب باسم الدفاع عن الحرية وحقوق الانسان. وهذه الشعارات فيها الكثير من التناقض. فحينما يستدعي البرلمان الأوروبي إلى جلساته «ناشطة» انفصالية تتحرك لحساب المخابرات الجزائرية وتلوح بالحرب وترفع السلاح في وجه المغرب، فأوروبا بذلك تدعم خطاب الكراهية والعنف وليس الحرية والسلام الديمقراطي كما تدعي دائما. فما ينظر إليه الغرب، وتحديدا فرنسا التي تقف وراء هذه الدسائس، على أنه حرية واستقلالية في القرار هو في نَظر شريكها الاستراتيجي، المملكة المغربية، تحريض وتجييش ومس بأمن دولة حليف وشريك اقتصادي وسياسي وأمني له وضع متقدم.
قد يكون لدى الساسة الأوروبيين حرية في توظيف مؤسسات الاتحاد الأوروبي لتصفية حسابات خاصة مع دول الجنوب. وقد يكون لفرنسا تقديراتها الخاصة دفعتها إلى التضحية بشريك موثوق في سبيل «نزوة عابرة» مع نظام عسكري، لا شك أنه غير ديمقراطي. نظام عرف كيف يبتزها لسنوات بـ«ريع الذاكرة الاستعمارية». لكن ليس من الحرية في شيء المس بالوحدة والترابية للمغرب عبر تشجيع خطابات معادية ومأجورة من داخل لجنة بالبرلمان الأوروبي.
إن الدروس المستقاة مما يجري تفيد أن الغرب لم يتخلص بعد من فكرة الوصاية على الشعوب واختياراتها الوطنية. فبينما يتمسك المغرب بموقفه ويرى في الأزمة الحالية فرصة للتحلل من النفوذ الفرنسي. ترد فرنسا بإذلال النظام العسكري في الجزائري. فعَلت ذلك في قضية إجلاء الناشطة الحقوقية الجزائرية الفرنسية، أميرة بوراوي، بإخراجها من تونس نحو باريس تحت حماية السلطات الفرنسية كما عنونت صحيفة «لوفيغارو». فتم الإذلال بنجاح، بينما تحتج الجزائر على حَدَثٍ وقع في دولة ذات سيادة. تونس!