وقد برزت قضية « الجماجم » لأول مرة في أوائل عام 2010، عندما بدأ المؤرخ الجزائري « علي فريد بلقاضي » البحث في متحف البشرية، حيث اكتشف أن المتحف لايزال يحتوي على جماجم لمقاتلين ومدنيين خلال الغزو الفرنسي للجزائر في القرن التاسع عشر، حيث عرضت الرؤوس على أعمدة وأعيدت لاحقا إلى فرنسا بصفتها « غنائم حرب »، لكن وبفضل الحملة التي قادها العديد من الخبراء والحقوقيين والفاعلين في المجتمع المدني، وافق الرئيس » ماكرون » سنة2017 على إعادة جماجم » الشهداء الجزائريين »، ولم يكن ذلك الإعلان بدافع إنساني أملته صحوة ضمير لسجل استعماري بغيض، وإنما رضوخا لعرائض نددت بهذا الإرث الاستعماري الذي يعرض جماجم مقاومين دافعوا عن أوطانهم وكأنهم مجرد » أشياء تراثية » كما يصر على تسميتها " ميشيل جيرو » مدير المحفوظات في المتحف الفرنسي للتاريخ الطبيعي، مع العلم أننا لسنا في حاجة إلى تذكير بلد العطر والأنوار.. والإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن المادة 212-1من القانون الجنائي الفرنسي، تعرف الجريمة ضد الإنسانية بأنها » تشمل الترحيل القسري أو الإعدام الجماعي أو اختطاف الأشخاص د وتعذيبهم أو إخضاعهم لممارسة غير إنسانية بدوافع سياسية أو عرقية أو دينية، وتنفيذ تلك الأفعال بطريقة إرادية وتخطيط مسبق ضد مجموعة من المدنيين.. ».
وبعد طول مناقشات ومقايضات، تمت عمليات الاسترداد » السرية والمربكة سياسيا » كما وصفت ذلك صحيفة » نيويورك تايمز »، هاته الصحيفة التي أجرت تحقيقا تناولته العديد من الصحف العالمية والفرنسية، من بينها يومية » ليبراسيون » الفرنسية، مفاده أن حكام الجزائر تعرضوا لخديعة كبرى، كون الجماجم ليست كلها لمقاومين، حيث تبين في التحقيق وجود جماجم لصوص وثلاث جنود مشاة جزائريين خدموا في الجيش الفرنسي، وأن ستة فقط من الجماجم التي سلمت إلى الجزائر في يونيو 2020 هي لرجال المقاومة، وأن تلك الجماجم قد أعيرت للجزائر لمدة خمس سنوات، ومن الممكن استردادها في حال لم تتغير قوانين الاحتفاظ بها في فرنسا.
ورغم ذلك حاول حكام الجزائر طمس الحقائق على الشعب الجزائري، وأقامت دولة القوة الضاربة احتفالات تمجد هذه المهزلة وهذا التاريخ المزور، حيث تبارى المداحون والطبالون في تمجيد أزلام النظام العسكري البائد وبطولات وأمجاد وقوة القوة الضاربة التي لاتقهر، مرددين شعارا زائفا » التصالح مع الذاكرة ».. نعم لقد أقيمت احتفالات تنكرية عشية الاحتفال بالذكرى الثامنة والخمسين لاستقلال الجزائر، حيث حضر الرئيس تبون شخصيا للترحيب بالرفات على مدرج مطار الجزائر، وانحنى أمام النعوش المزورة في احتفال عسكري مهيب، إنه ريع الذاكرة الذي كرسه النظام العسكري لاستغفال الشعب الجزائري الشقيق، مع العلم أن وزير المجاهدين » العيد ربيقة » تمادى في التضليل والكذب، حيث صرح أن » هوية الجماجم والرفات حددت من طرف مختصين لدى البلدين، وفقا لمعايير علمية، وأن ماأثير في وسائل الإعلام هو محاولة للتشويش على علاقات الطرفين »، في المقابل قدمت وزيرة الثقافة الفرنسية » ريما عبد المالك »، توضيحا يحتوي على لبس وغموض في الموضوع أمام أعضاء البرلمان الفرنسي، تلبية لسؤال شفهي طرحته النائبة « كاترين مورين » من اتحاد الوسطيين، حيث أكدت أن » لجنة مختصة مشتركة بين البلدين بدأت الاشتغال على الملف منذ عام 2017 وقد تم الاتفاق في آخر المطاف على أن 24 جمجمة من ضمن 45 جمجمة كانت معنية بالبحث والمعاينة، قد تم الاتفاق على أنه يرجح أن تكون لأصول جزائرية، وقد تم ترحيلها إلى الجزائر للبقاء هناك مدة خمس سنوات لأنها تعتبر ملكا فرنسيا ».
بعد ذلك اتجه البرلمان الفرنسي إلى إيجاد صيغة نهائية لاحتواء قضية الجماجم الجزائرية في فرنسا، حيث تقدم أكثر من ثمانين نائبا في البرلمان الفرنسي بمشروع قانون إلى الحكومة، يتم بموجبه تسوية ملف الجماجم الجزائرية المحتفظ بها في متحف الإنسان بباريس.
والآن يصرح النائب الفرنسي » كارلوس مارتينيز بيلونغو » صاحب مقترح مشروع قانون إعادة جماجم المقاومين إلى الجزائر، أن سلطات بلاده رفضت عرض هذا المشروع على البرلمان لأسباب ربطها ب " حساسية الملف » ومذكرا لصحيفة " الشروق » الجزائرية، أن وزيرة الثقافة الفرنسية قررت استرجاع تسيير ملف الجماجم الموجودة في متحف الإنسان بباريس، مشيرا إلى أنها نصبت لذلك لجنة وطنية من أجل تحديد هوية أصحاب الجماجم، مع العلم أن أغلبية البرلمان الفرنسي المؤيدة لماكرون، رفضت اقتراحا لإنشاء مجلس استشاري علمي بشأن التعويضات، ولم يصادق ائتلاف ماكرون في البرلمان الفرنسي على مشروع قانون طرحه نائب يساري لإعادة كل الجماجم إلى الجزائر، التي يحتفظ بها تحت » تعتيم معين » خوفا من أن البحث قد يفتح الباب على مصراعيه أمام طلبات التعويض وإلقاء ضوء على إرث استعماري بئيس.
وإلى أن يحين موعد تنصيب هذه اللجنة في قادم الأيام أو السنوات.. أو... حري بحكام الجزائر أن يطالبوا بإعادة الأموال المنهوبة المكدسة في أبناك العالم، وأن يطالبوا بإعادة الحلم المصادر إلى الشعب الجزائري المغلوب على أمره، وبعودة البسمة إلى أفواه الجياع والعاطلين، وعودة الهوية المفترى عليها، وعودة أمل شعب طال انتظاره، شعب قدر له أن تتكالب عليه طغمة عسكرية فاشلة، يستهويها الاحتفاء بتاريخ مزور في حفل تنكري بئيس..