وإنْ كان الأشعري حريصاً في تجربته الأدبية على كتابة الشعر والرواية والقصّة، فهو أمرٌ يعود بالأساس إلى ذاته المتعدّدة وقُدرته على تطويع فعل الكتابة وفق آليات مختلفة من الشكل الأدبي. لكنْ إلى جانب تجربته الأدبية، عُرف الأشعري بتأصيل فكرة الجدل حول واقع السياسة الثقافية ووضعية الثقافة المغربية في زمن التحوّلات السياسيّة والثقافيّة، فيكون في الغالب رأيه مختلفاً ومبنياً على قناعات معرفية وتجارب شخصية راكمها صاحب « الخميس » وحرص أنْ تكون في مقدمة برنامج الثقافي، سواء حين كان وزيراً للثقافة أو لما استقلّ وعاد إلى عمله اليومي كمثقف يزاوج بين الكتابة في الأدب والتأمّل في الوضع الثقافي.
هنا حوار معه:
ـ أولاً كيف تعيش هذا التعدد الأدبي في ذاتك بين الشعر والقصة والرواية؟
هو مجرّد تعدد في الأعمال والتعبيرات لكنّي واحدٌ. فالأعمال متعددة حسب شروط الكتابة وحسب أيضاً الاهتمام الظرفي الذي يكون مصاحباً لفعل الكتابة. فأحياناً يُلحّ عليّ الشعر في صيغة القصيدة. بينما يُلحّ أحياناً السرد، ولكن الشعر يبق دائماً مفكّراً فيه، سواء في الأعمال الشعرية نفسها أو حتى داخل السرد.
ـ صدرت لك حديثاً مجموعة قصصية بعنوان « الخميس ». ماذا تقول للقارئ عن كواليس هذه المجموعة القصصية؟
هي عودة إلى هوى قديم. فأنا بدأت حياتي الأدبية بالقصّة القصيرة ثم انتقلت إلى الشعر وزاوجت بين الشعر والرواية، ولكنّي لم أعد إلى هذا الجنس الأدبي الصعب والدقيق، إلاّ في السنة الماضية. فمنذ « يوم صعب » التي نشرتها في بداية التسعينيات لم أعد إلى هذا الجنس وستجدون في هذه المجموعة بالضب قصتين كتبتهما قبل عشر سنوات، لكن الباقي كلّه كتبته سنة 2023 فخلال سنة كاملة كتبت هذه الأعمال بطريقة متصلة كما لو أنّي أشتغل على كتاب أو رواية. فهناك عوالم مشتركة في هذه القصص.
العوالم التي تستعيد لحظات من الطفولة وتستعيد بعضاً من الأمكنة في حياتي وبعض الوجوه الأساسية التي عرفتها، سواء في التجربة السياسية أو في الصداقة والحياة. وإجمالاً يمكنني أنْ أقول بأن هذه القصص كلّها هي نوع استعادة مشاهد من الحياة اليومية سواء كانت تتم داخل أمكنة معيّنة أو داخل شخصية ما.
ـ إذا حاولنا أن نُقيم طباقاً بصرياً بين المجموعة القصصية « الخميس » والعمل الشعري الجديد « جدران مائلة ». ما حدود التقاطع والتلاقي؟
أظن أننا ليس بالضرورة أنْ نعثر على نقط التقاطع لأن التجارب مختلفة تماماً ونفي الأمر بالنسبة لأسلوب الكتابة واللغة ما يجعل مستوياتهما متباينة لكنْ في المجموعة الشعرية أيضاً استعادة لبعض الأمكنة وتفاصيل الحياة اليوميّة. ففي كتاب « المراثي » وهو جزء من الديوان فيها استعادة لبعض الوجوه التي صادقتها في تجربتي الحياتية والتي فقدتها لاحقاً.
ـ كيف ترى وتُقيّم واقع الشعر في زمن يتراجع فيه الشعر لصالح أشكال تعبيرية أخرى؟
ينبغي أنْ نعرف أنّ الشعر دائماً كان هامشياً وفي جميع العصور وفي جميع الثقافات باستثناء فترات خاصّة وقصيرة. فإذا استعدنا مثلاً تجربة القصيدة في الجاهلية باللغة العربية تجربة مرتبطة بالأسواق والحياة القبلية وبالطرق التجارية والحج وغيرها، باستثناء ذلك فإنّ الشعر كان دائماً نوعٌ من الإنتاج الحميمي المنبني على العزلة. من ثمّ، فإنّ التجارب القليلة التي خاطبت العالم بالشعر هي تجارب عابرة إذْ لم تكن واسعة ومنتشرة. وإذا سألت الألمان إذا ما كانوا يقرؤون هولدرلين وريلكه وغيرهم فإنّ قلّة قليلة من ستكون على دراية بالأمر. الشعر هو تجربة خاصّة وهو مزيج من الحسّية والروحانية والفلسفة وعلم النفس واشتغال صبور على اللغة وعلى الصورة وبالتالي، فهي ليست جماهيرية، باستثناء التجارب التي كانت تحملها قضية ما فكلها عبارة عن الكلام المهموس الذي يمُرّ بين اثنين.
ـ لكنْ، كيف عبرت من الشعر إلى الرواية؟
أنا في الحقيقة انتقلت أوّلاً من القصّة إلى الشعر ثم بعدها إلى الرواية. وبصفة عامة أنا أؤمن بوحدة الكتابة، بحيث يمكن أنْ يكون كاتب ما أو شاعر ما مخلصاً تمام الإخلاص لجنس واحد لأنها مسألة اختيار. ولكنْ هذا لا يعني بأنّ هناك حدوداً فاصلة بين الأجناس الأدبية، لأن الكتابة تبقى عبارة عن وحدة داخل هذا التشعّب من التعبيرات والأجناس ولكنّها وحدة كاملة. فأنا أشعر بأن الكتابة واحدة والتعبيرات الفنية متعدّدة.
ـ باعتبارك شاعراً ومثقفاً ووزيراً سابقاً، كيف ترى واقع السياسات الثقافيّة وكيف ترصد تحولاتها؟
هذا موضوع صعب. أنا جربت هذه المسؤولية من الداخل وعاينت مجموعة من القضايا والأوراش التي يجب فتحها في المجال الثقافي.
لهذا فقناعتي أنّ الدولة أنْ يكون لها دورٌ جوهريّ في النهوض بالقطاع الثقافي. فأنا أفصل بين واجبات الدولة في هذا المجال بحكم التأخّر التاريخي في المجال الثقافي ولدينا ضعف كبير في الإنتاج وضعف أكبر منه في المقاربة الثقافية. فنحن لا نتوفّر على سوق ثقافية كبيرة واستهلاكنا الثقافي محدوداً جداً وبالتالي، يستدعي ضرورة وجود سياسة عمومية تُنفق بدون حساب الربح والخسارة. بل تحسم شيئاً أساسياً له علاقة بما سيربحه المجتمع من وجود مستهلكين ثقافيين على نطاق واسع، لأنّ هذا الأمر سيسهُم لا محالة في تنمية أفضل وأكثر نجاعة وسيُساهم في بناء الديمقراطية التي نحن كلّنا متيقنون أنها الحل لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع والعلاقات بين الحاكمين والمحكومين وترسيخ قيم الحرية والمساواة. لهذا فإنّ التقدم الثقافي ضروري بل حاسم في هذه المسألة.
ونحن نعرف أن انتشار كل الأفكار المضادة للتقدم وللحرية، فانتشار هذه الأفكار هو يسهل في المجتمعات الضعيفة ثقافياً ويصعب عليها الانتشار في المجتمعات القوية ثقافياً. ولذلك فأنا اليوم أعود إلى هذه الأساسيات، رغم أني سعيد أن تنفق الدولة على هذه الأشياء الأساسية مثل معرض الكتب وغيرها.
لكن وفي نفس الوقت أدعو إلى وضع خريطة طريق للمجال الثقافي أوسع بكثير من شيء يمكن أن تنجزه حكومة ما. فلا بد أن يكون هناك ميثاق وطني للثقافة وترعاه الدولة بصفةٍ أساسية وتضمن تثمينه بصفة مستمرة وعلى المدى الطويل ويشارك فيه فاعلون أساسيون عموميون وخواص ويستفيد من المنتج الثقافي والمستهلك أيضاً.
ـ هل ترى أنّ هناك أي تبعية للثقافي للسياسي؟
هذا موضوع قديم وسيبقى مطروحا باستمرار لسبب بسيط ومعقد في آن واحد. وذلك لأن السياسة تسعى دائما إلى استعمال كل الآليات التي يمكن استعمالها لإشاعة قناعاتها واختياراتها في الحكم وتدبير الشأن العام. وهذا الأمر، تعتوره أحيانا بعض الصعوبات الناتجة عن مقاومة العمل الثقافي الذي لا يسلم بهذا النوع من الهيمنة. وأحيانا تعتوره صعوبات قادمة من داخل الجسم السياسي نفسه وليس من مقاومة الثقافي.
وأظن أن هناك اليوم في المغرب وعدد من الدول العربية الأخرى، إذْ هنا قناعة مشتركة، بأننا يجب أن لا نخلط الأمور وأن الشرط الأساسي لكي يقوم المجال الثقافي أنْ يقوم بكل شيء هو شرط الحرية والاستقلالية. فإذا لم يكُن مستقلاً ويعيش في مناخ حرّ فإنه لا يُمكن أنْ يقوم بأيّ شيءٍ جوهريّ. لهذا فرغم قناعتي بضرورة تدخّل الدولة في دعم القطاع الثقافي فلا بد من الوقوف عند حد رفيع فاصل بين استثمار الدولة في المجال الثقافي وبين تدخلها في المجال الثقافي. فالاستثمار الثقافي شيء ووضع اليد على الثقافة شيءٌ آخر.