صباح الاثنين 22 ماي 2023، أمام مقر مبنى «الزاوية الكركرية» بمدينة العروي (إقليم الناظور)، تقف سيارة فارهة فيترجل منها شيخ تبدو عليه علامات الهيبة والوقار، يرتدي رداء أبيضا كلحيته، وتتدلى من فوق رأسه عمامة زرقاء. يتوكأ عصا ثم يتقدم مبتسما بخطوات متثاقلة نحو جموع من الناس يرتدون لباسا موحدا عبارة عن « جلباب » مرقع بألوان مزركشة. إنهم الأتباع والمريدون الذين يطلقون على أنفسهم «الفوقارا»، وقفوا مصطفين على امتداد جدار المبنى، في انتظار قدوم «سيدي محمد فوزي الكركري قدس الله سره»، الذي استقبلوه بالحليب والتمر، ثم هرعوا تباعا لتقبيل يده ترحيبا بقدومه بعد عودته من جولته في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن تم ينطلق الموكب بترديد الأمداح والابتهالات خلف الشيخ الذي يصعد إلى الطابق الثاني من المبنى، حيث توجد صالة كبيرة تقام فيها طقوس الحضرة والجدبة...
مثل هذا المشهد الذي لم يألف المغاربة رؤيته، يكاد يكون طقسا عاديا في مدينة العروي، حيث يتم توديع واستقبال «الشيخ الكركري» بهذه الطريقة في كل مرة يغادر أو يعود إلى مقر زاويته...
من أين لهذا الشيخ بكل هذه الهالة و«القداسة»؟
«هو الإمام الأكبر والكنز الأفخر الذي من وجده وجد الكبريت الأحمر، ومن صحبه نال العز الأكبر، الساطعة شمسه في سماء الحقيقة، ووارث سر الذات، والمؤيد بنور الصفات، صاحب الهمة العالية والأخلاق المرضية والعلوم المصطفوية، الختم الأحمدي والمظهر المحمدي سيدي محمد فوزي الكركري رضي الله عنه»، هكذا يعرّف موقع الزاوية الرسمي بالشيخ الكركري، مستخدما أوصافا وعبارات تسمو بالرجل إلى مرتبة القديسين والأولياء...
وبعيدا عن ملامح البروفايل «المضخم» و«المبالغ فيه»، الذي يريد مريدو الشيخ تسويقه عبر موقعهم وصفحاتهم الالكترونية، فإن المتفحص لسيرة فوزي الكركري لن يخلص إلى جواب مقنع عن هذا السؤال، ذلك لأن مساره يكاد يكون عاديا بلا أية إنجازات ترقى بصاحبها لأن يكون من ألذين تشد إليهم الرحال لعلم أو سلطة أو مال أو مكانة مرموقة، على الرغم من أن صيته اليوم بلغ مبلغ الآفاق.
ولد أبو عبد الله محمد فوزي الكركري عام 1974 بتمسمان، إحدى قبائل الريف في إقليم الدريوش. وكأي مغربي يرى النور في «المغرب العميق»، نشأ الكركري نشأة عادية وتلقى تعليمه الأولي والإعدادي في مدينة الحسيمة، ثم سافر إلى مدينة تازة ليكمل تعليمه الثانوي بيد أنه لم يكمله. وبعد مدة خرج سائحا في أرض المغرب وزار مدنا عديدة، ودامت غربته عشر سنوات، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه.
«ليس بالطويل ولا بالقصير، أبيض مشربا بحمرة، جميل الوجه ترى في عينه بريقا عجيبا، يأسرك بنظراته، فكم من مرة يلتقي بصري مع بصره الشريف فأشعر بقشعريرة تسري في جسدي كله، وربما وصلت إلى عيني تلك القشعريرة فتساقطت قطرات من الدموع منها، ترى الأنوار على وجهه، لا تخفى على ذي بصيرة، وكل من رآه هابه، ومن خالطه أحبه، نظيف الثياب، قد ترك أجود ثيابه واختار لبس المرقعة»
— موقع الطريقة الكركرية
يمكن اعتبار هذه العودة هي نقطة التحول في مسار هذا الرجل، حيث كان لاجتماعه بعمه (حسن الكركري) في ليلة عيد الفطر غداة عودته، بالغ الأثر في «توبته»، كما يقول المقربون منه، الذين يؤكدون أنه «حلق شعر رأسه، وأطلق لحيته، وتبرع بملابسه تزهدا وأحرق شهاداته الدراسية، على قلتها».
طلب منه عمه السفر إلى مدينة العروي في إقليم الناظور، وانتظار قدومه من أجل تلقي ما يُسمى الوِرد، الذي يعد بمثابة «دستور الطريقة الصوفية». وبعد خلوة دامت عامين، نصب فوزي خلفا لعمه بعد وفاته، حيث تولى الشباب مشيخة الطريقة عام 2007.
لما غدا فوزي شيخا للزاوية «العلوية الدرقاوية الشاذلية»، سيطلق عليها اسم «الزاوية الكركرية»، نسبة إلى اسمه العائلي المأخوذ من «جبل كركر» أو «جبل الشرفاء» الكائن بإقليم الحسيمة.
انطلق مشروع الطريقة الكركرية في البداية من «كراج» كان تحت منزل والده بمدينة العروي، اتخذه كمقر للزاوية يجتمع فيه مع بعض أصدقائه وبعض أفراد عائلته. فكانوا يجتمعون كل جمعة في الليل ويقومون بطقوس الذكر والحضرة.. وظل على تلك الحال إلى أن تحسنت الأحوال المادية للشيخ بعد توسيع دائرة الأتباع والمريدين داخل المغرب وخارجه، ليشيد مبنى فخما هناك يتسع للوفود الهائلة التي ترد عليه يوما بعد آخر.
كرامات «الشيخ الكركري»
يظهر تارة وسط أتباعه ومريديه مرتديا ثيابا مرقعة وهو يصدح بالأذكار وفق طقوس «الجدبة».. وتارة يظهر مستلقيا على ظهر يخت فخم يمخر عباب البحر في رحلة سياحة واستجمام.. وتارة أخرى يظهر وهو يلعب «الغولف» أو يسبح في نهر أو محاطا بمائدة طعام باذخة.. وفجأة يبث عبر تقنية المباشر محاضرة يلقيها بنفسه في جامعة شيكاغو الأمريكية العريقة حول الذكاء الاصطناعي...
يقوم المذهب الصوفي للطريقة الكركرية على مبدأ «المشاهدة»، سواء في المنام أو رأي العين. يقول فوزي: «طريقتنا طريقة المشاهدة، من لم يُشاهد فلست بشيخه وليس بمريدي». ويشرح عبر مقطع فيديو منشور في موقع الزاوية على الانترنيت، أن طريقته تجمع بين السلوك الزاهد والمترفع عن متاع الحياة، و«الجذب القائم على التوحد في محبة الخالق»...
«يرتدون أزياء مبرقعة بالألوان المتعددة كالأخضر والأصفر والأحمر، اقتداءً بالخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، الذي كان يخيط رقعة من القماش على ثوبه المهترئ كلما تقطّع»
— فوزي الكركري
أما مريدو الشيخ الكركري وأتباعه فيذكرون، من خلال شهادات كثيرة منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، فضل شيخهم في تسهيل طرق المشاهدة للمريد، ويعتبرون تلك إحدى كراماته، إذ يؤكدون أنه بعد «الخلوة»، أي «لزوم قبر الحياة للتجرد من الحس والسفر إلى المعنى وفق زعم الشيخ»، يتحصل له - أي المريد- سر الجمع بمعاني الأولية والأخروية للكون وخالقه، الذي يوازي لديه مبدأ «الحضرة»، وهو عبارة عن تجمع لعدد من الأتباع، يرددون فيه ابتهالات دينية مصحوبة بالرقص والدوران مرددين تسابيح غير مفهومة، وبالتالي، تتحقق لهم السعادة، حسب زعم شيوخ هاته الزاوية الذين يصفون أنفسهم بـ«العارفين» و«أهل النور الإلهي».
الشيخ الكركري يحاضر في أعرق جامعة أمريكية
لعل أكثر ما أثار الجدل حول الشيخ الكركري مؤخرا هو الجولة التي سميت بـ«العلمية والتعليمية» في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما تمت دعوته من طرف أحد أساتذة جامعة شيكاغو لكي يلقي محاضرة حول «التصوف الحي والذكاء الاصطناعي». فقد استهجن بعض المنتقدين إقدام جامعة عريقة على توجيه الدعوة لشخص «لا يتوفر حتى على شهادة البكالوريا»، من أجل إلقاء محاضرة علمية حول موضوع معقد مثل الذكاء الاصطناعي.
وذهب البعض الآخر إلى أن الجامعة الأمريكية قد وقعت «ضحية» التضخيم والهالة التي يحيطها الأتباع المنتشرون في العالم بشيخهم، حيث قدموه على أنه «متخصص وناشط وكاتب، حاصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة فرنسية ومعترَف بعمله الإحساني من الأمم المتحدة، والساعي إلى إحياء تقليد علوم الإحسان، عن طريق بيداغوجيا تركز على التجربة المباشرة في البحث عن التعرف على الذات والله».
وانبرى آخرون إلى إخضاع خطاب وطريقة حديث هذا «الدكتور المتخصص» فأثبتوا بالدليل أنه لا يضبط حتى آيات القرآن حين يستشهد بها، وهو ما يتناقض –حسبهم- مع حال المتصوف الذي لا يفترض أن يخطئ في القرآن...
المهدي المنتظر
خلال فترة وجيزة، اكتسبت الطريقة الكركرية شهرة كبيرة، ربما لاعتمادها على الإشعاع السريع الانتشار عبر موقعها الالكتروني بثلاث لغات (العربية- الفرنسية- الإنجليزية) وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تمكنت من اختراق الحدود واستقطاب أتباع ومريدين في معظم البلدان والاقطار العربية والأجنبية من مستويات علمية عالية، حسب ما يقول هذا الدكتور / المريد الذي يدافع عن شيخه باستماتة ضد المنتقدين:
لم يقتصر انتشار «الكركرية» في بلدان المغرب العربي وأوروبا فقط، بل إن أفكارها ودعوتها وصلت إلى دول المشرق العربي، فأصبحت في لمح البصر من أكثر الطرق الصوفية انتشارا داخل مصر والأردن والعراق، حتى أن مريدين صوفيين تركوا طرقهم وأعلنوا انضمامهم إليها، وفق ما تروجه الطريقة عبر موقعها وصفحاتها الإلكترونية.
— Bilyes (@Bilyes5) July 14, 2022
حامت حول الشيخ الكثير من الشبهات، بسبب سلوكه المستغرب من طرف عامة الناس، حتى أن بعضهم وصفه بـ«المهدي المنتظر»، ما دفعه إلى الخروج في تصريح صحفي ليدفع عنه هذه التهمة: «هذا كلام غير صحيح بالمرة، لأن المهدى المنتظر الذى سيخرج أخر الزمان، سيخرج من بلاد الحرمين من المملكة العربية السعودية، ولن يخرج من المغرب أو غيرها من الدول، فلذلك هذا كلام غير صحيح».
ويعزو فوزي الكركري كثرة الانتقادات التي طالته إلى الانتشار الكبير الذي حققته طريقته، حيث يقول: «هناك من اتهمني بالسحر والشعوذة، وهناك من قال إننى أسخّر الجن في جمع المريدين والاستحواذ عليهم، وضمهم إلى طريقتي، ويعلم الله أنى بريء من كل ذلك، لأن لا إله إلا الله محمد رسول الله هي التي جمعت الناس حولي، فأنا لم أدع أحدا إلى اتباع طريقتي الصوفية، وإنما يأتي المريدون إلي لأخذ العهد دون أن أطالبهم بذلك، وهذا سببه النور الإلهي الذى خرج من طريقنا الصوفي، حيث أننا نذكر الله ليل نهار، ونعمل على نشر الدين الصحيح بين الناس بالحكمة والموعظة الحسنة».
على خطى الحلاج
بعض المنشقين عن الطريقة الكركرية يرون أن فوزي «لا يستحق لقب الشيخ» بل هو فقط «متشيّخ» يدعي المشيخة، حيث يزعمون أن فوزي الكركري لم يأخذ المشيخة عن عمه الحاج حسن كما يدعي، بل شرع في الدعوة إلى طريقته بعد عامين من وفاة عمه، وهو ما يعتبره هؤلاء المنشقين «كذبا متعمدا من طرفه بغرض التضليل»، مؤكدين أن جميع الشيوخ الصوفيين الحقيقين أخذوا علمهم عن شيوخ أحياء وليسوا أموات، مثلما فعل زعيم الطريقة الكركرية.
أحد هؤلاء المشقين اسمه محمد الطيبى، وكان مريدا مشهورا بدفاعه عن الطريقة قبل أن يعلن انشقاقه عنها، كتب يقول في صفحته الفيسبوكية: «إن الطريقة الفوزوية الكركرية ليست طريقة صوفية ولكنها طريقة دخيلة على التصوف وأهله..».
أما الذين أخضعوا مذهب الطريقة الكركرية للنقد، فقد خلصوا إلى أن «وحدة الوجود» الذي ينهجه محمد فوزي الكركري، سيرا على نهج الحلاج وابن عربي، فإنه يخالف الكتاب والسنة و«يقود نحو الكفر»...
ورغم أنه يؤكد أن طريقته لا تخرج عن السياق العام للنظرة المتصوفة عند سائر الفرق الأخرى، إلا أن بعض منتقديه لا يتوانون عن اتهامه بـ«الزندقة».
لا يبدو أن كل هذه الانتقادات والاتهامات ستثني «اشيخ الكركري» عن مواصلة «مشروعه» في ظل تزايد أعداد مريديه في الداخل والخارج، ثم إنه –ربما- مشغول جدا بنشر صوره الاستعراضية التي توثق جولاته السياحية في شتى بقاع العالم.. ولا يبالي بالتعليقات الساخرة من سلوك الصوفي «الغارق في الملذات»...