إن تقلب المواقف هو أحد الأمور التي لا يملك سرها سوى جزائر الثنائي تبون-شنقريحة. فضلا عن كونها استهزاء بأبسط القواعد الدبلوماسية، فإنها (مرة أخرى) تكشف عن نظام يسير بطريقة عشوائية. تخيلوا زيارة رسمية، مقررة منذ فترة طويلة، وتحمل شحنة رمزية قوية، حيث من المفترض أن تطوي صفحة عامين من الصراع المفتوح إلى حد ما بين البلدين، تلغى قبل أقل من 12 ساعة من القيام بها.
وكان هذا هو حال الزيارة التي كان من المقرر أن يقوم بها وزير الخارجية الإسباني، خوسي مانويل ألباريس، إلى الجزائر يوم الاثنين 12 فبراير. فالجزائر، التي قدم «رئيس» دبلوماسيتها أحمد عطاف طلب القيام بهذه الزيارة، هي التي قررت تأجيلها إلى أجل غير مسمى.
لا نعرف شيئا عن الأسباب «الحقيقية» لهذا التأجيل، إذ اكتفت الدبلوماسية الجزائرية مرة بالإشارة إلى أسباب تتعلق بـ«الأجندة»، ومرة أخرى تزعم، خطأً، أن إسبانيا هي السبب وراء هذا التأجيل. إنها فكرة مغلوطة، روج لها على وجه الخصوص المدعو إغناسيو سيمبريرو، المراسل الإسباني السابق في الرباط، والذي أصبح بوقا دعائيا للنظام الجزائري. وكتب تدوينة في موقع X (تويتر سابقا) قائلا: «رئيس الدبلوماسية يؤجل زيارته إلى الجزائر إلى أجل غير مسمى عندما علم أن الرئيس تبون لن يستقبله. بعد 20 شهرا من الأزمة، المصالحة بين إسبانيا والجزائر لم تكتمل بعد».
#Espagne: Le chef de la diplomatie (@jmalbares) reporte sine die son voyage à Alger lorsqu'il apprend que le président Tebboune ne le recevra pas en audience. Après 20 mois de crise, la réconciliation #Espagne-#Algérie n'est pas encore terminée. @MAECgob https://t.co/jf4BmdeujG
— Ignacio Cembrero (@icembrero) February 11, 2024
غير أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، بل إن « الدبلوماسية » الجزائرية هي المسؤولة بالفعل عن إلغاء الزيارة، بسبب التقلبات المزاجية التي أصبحت سياسة دولة لدى جيرانها. فهو قرار يناقض التصريحات المختلفة والمتنوعة للنظام الجزائري، الذي لم يكف عن التباكي من أجل المصالحة بين مدريد والجزائر، على أمل تغيير وهمي في الموقف الإسباني من قضية الصحراء.
لا تزال الخرجة الإعلامية الغريبة لأحمد عطاف في دجنبر الماضي، على منصة بودكاست أثير التابعة لمجموعة الجزيرة الإعلامية القطرية، عالقة في الأذهان. أمام خديجة بن قنة، الصحافية الجزائرية -التي هي أيضا بوق دعائي للنظام في العالم العربي- أقسم وزير الخارجية الجزائري أن إسبانيا غيرت موقفها بـ«180 درجة». وقال دون أن يرف له جفن: «ما أعطى الضوء الأخضر لإعادة تقييم علاقاتنا مع إسبانيا هو الخطاب الذي ألقاه بيدرو سانشيز في الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي غير فيه موقفه». إلا أن رئيس الحكومة الإسبانية اكتفى في ذلك فقط بتوضيح أن الموقف (الجديد) لبلاده يتوافق مع موقف الاتحاد الأوروبي والمسلسل الذي ترعاه الأمم المتحدة، بهدف التوصل إلى حل سياسي وعادل ودائم ومقبول من الطرفين، وفقا لقرارات مجلس الأمن.
هناك أمنيات الطغمة العسكرية، ولكن هناك الحقائق والوقائع. فمدريد لم تغير قيد أنملة دعمها الثابت والنهائي لمخطط الحكم الذاتي المغربي فقط، بل إن هذا الموقف تعزز بالأفعال. إن الإعلان عن افتتاح فندق إسباني بالداخلة وفرع لمعهد سرفانتس، التابع للدبلوماسية الثقافية الإسبانية، بالعيون، هما مثالان من بين أمثلة أخرى كثيرة. لقد انتهى الأمر بالجزائر إلى حقيقة مفادها أن التقارب مع مدريد لا يمكن يتم على حساب الديناميكية القوية للشراكة بين المغرب وإسبانيا، وحتى على حساب قرار الدولة الإسبانية، الذي لا رجعة فيه، المؤيد لمغربية الصحراء.
حاولت الجزائر تطبيق التقارب التدريجي مع مدريد منذ الأزمة الدبلوماسية التي أثارتها في مارس 2022، باستدعاء السفير الجزائري في مدريد، وتجميد معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون وتعليق العلاقات التجارية، ردا على اصطفاف إسبانيا مع المغرب في ما يتعلق بصحرائه. بل إنها أرادت أن تصل خسائر الاقتصاد الإسباني إلى ذروتها عند 2.3 مليار دولار نتيجة لهذه «الأعمال الانتقامية». وكانت زيارة ألباريس ترمز إلى بداية مرحلة جديدة من ذوبان الجليد، سبقها تعيين سفير جديد في مدريد، في منتصف نونبر 2023 (عبد الفتاح دغموم بدلا من سعيد موسي)، والترخيص لبعض الواردات وإعادة فتح خطوط بين الجزائر ومدريد وبرشلونة.
ومن الواضح أن الجزائر لم تحصل على أي شيء على الإطلاق في المقابل. وإذا كان النظام الجزائري قد راهن على تغير الموقف السياسي الإسباني بشأن الصحراء، فإن مدريد لم تخف أبدا أن الغرض من استئناف علاقاتها مع الجارة الشرقية له أسباب ثنائية ولا يهم ملفا من المفترض أنه لا يعني الجزائر.
عودة العلاقات كانت اقتصادية في المقام الأول، حيث أن الجزائر محتاجة للمواد الغذائية والضروريات الأساسية المستوردة من إسبانيا. وفضلا عن ذلك، من المقرر أن يلتقي خوسي مانويل ألباريس خلال زيارته بممثلي الشركات الإسبانية في الجزائر. لكن الجزائر رفضت حتى الآن رؤية ذلك. وكالعادة، عندما اصطدم النظام القائم بالواقع بدأ يضطرب، إذ لم يحصل بلا شك على الجملة المتوقعة في البيان الصحفي المشترك الذي كان سيصدر في أعقاب هذه الزيارة. إن الجملة التي طال انتظارها، والتي تشكل محور السياسة الداخلية والخارجية لنظام الجزائر، هي الجملة المعادية للوحدة الترابية للمملكة المغربية. لا شيء! لا تغيير في الأفق، ولا حتى على شكل صيغة غامضة توسلها منذ أيام نظام يسعى إلى وضع حد لسلسلة طويلة من انتكاساته وإخفاقاته.
إن الحديث عن «فشل إسباني» لإلغاء هذه الزيارة يثبت، مرة أخرى، هذا الخلل المرضي لنظام الجزائر الذي يربط علاقاته الثنائية مع الدول الأخرى بموضوع الوحدة الترابية للمغرب. وهذا أمر مؤسف، خاصة أن يأتي من بلد يدعي أنه مجرد «مراقب بسيط» في قضية الصحراء. والأخطر من ذلك، بين تمسك الطغمة العسكرية بالملف ومنطق التدمير وعزل البلاد، هناك بطبيعة الحال فجوة لن يتمكن الحكام الماسكون بالسلطة من سدها.