لا أحد يملك شرعية تقييم حقوق الإنسان. ولا يمكن لأية جهة أن تستأثر بشرعية تلقائية تمنحها تفويضا لفرض إملاءات تقييمية خارجية قد تحركها حسابات وسياسات المحاور. هذه الممارسات تتعارض معياريا مع قيم حقوق الإنسان التي تأسست على التحرر والسيادة وليس الوصاية وتفويض القوى الغربية الكبرى وظيفة المراقب لحقوق الإنسان في العالم.
إن أخطر ما يواجه حقوق الإنسان هو تحولها إلى إيديولوجيا للهيمنة السياسية والثقافية على الآخرين عبر الاختباء وراء خطابات الديمقراطية. هذه الإيديولوجيا تسعى إلى خدمة مشروع لا يراعي الخصوصية الوطنية لبلدان الجنوب ولا تحديات الانتقال الديمقراطي بها، بل قد تصطدم، لاعتبارات المرجعية، بإشكاليات الهوية والدين والبنية الاجتماعية ونظام سياسي مختلف عن البيئة الغربية التي نشأت فيها قيم حقوق الإنسان بوصفها امتدادا للحقوق الطبيعية. بالمقابل، تفرض هذه الوضعية على دول الجنوب إنتاج معايير خاصة بها لتعزيز حقوق الإنسان، بما يراعي كونيتها وعدم قابليتها للتجزئة. معايير تنأى بهذه القيم عن التسييس والتوظيف والوصاية على السياسات الوطنية والقرارات والأحكام القضائية، كما تفعل المنظمات الدولية لحقوق الإنسان في كثير من المواقف والأحداث.
الخطر الثاني الذي يواجه حقوق الإنسان هو تقاطعها مع خطابات هي أقرب إلى « الشعبوية ». فكلامهما يستمد شرعيته من مفردات الديمقراطية. وكما أن الشعبوية هي تعبير عن مزاج سياسي تطور سريعا وسط النخب والمجتمع الغربي، فإن الانتقائية في التعاطي مع قضايا حقوق الإنسان يجعل من المنظمات الدولية مجرد « مؤسسات وظيفية » تخدم أمزجة دول لها مصالح مالية وسياسية في الغالب، إذ تسعى عبر التحالف مع آلة إعلامية ضخمة إلى زيادة الضغط لتسريع الاستجابة وتقويض استقلالية القرار السياسي للدول المستهدَفة.
لقد شكلت « اللامساواة التأسيسية » أداة لتكريس علاقة التبعية بين دول الشمال والجنوب. يقوم هذا التصور حول « اللامساواة » على فكرة مفادها أن وضعية التبعية ضيعت على البلدان في مرحلة ما بعد الاستقلال فرصة تحقيق التحرر الاقتصادي والمالي وجعلتها تدور في فلك الدول الكبرى ما أثر على مشاريع التنمية والديمقراطية بدول الجنوب، فالعلاقة منذ التأسيس لم تقم على الندية. ومع الوقت طورت القوى العظمى آليات جديدة تسمح بالإبقاء على هذه الوصاية. إن انعدام المساواة التأسيسي بقي راسخا طيلة هذه السنوات، بل إنه يتجدد ويبتكر أدوات أخرى للبقاء، فيعاد إنتاجها بشكل مختلف في نظام دولي قائم على دول المركز ودول المحيط. يبدو اليوم أن المنظمات الدولية لحقوق الإنسان واحدة من هذه الأدوات التي عُهد إليها بمهمة « الصراع بالوكالة » بورقة حقوق الإنسان. فعلت ذلك مع الصين لسنوات طويلة، وتفعله اليوم مع المغرب بشكل يتسارع بالسرعة نفسها التي تتسع بها هوة الخلاف بين الرباط وباريس!
لم يعد بوسع أوربا أن تختص لوحدها بوظيفة الوصاية على حقوق الإنسان، فهي لا تملك شرعية تقييم هذه الحقوق لدى الدول الأخرى، سيما بلدان الجنوب، وقد أظهرت مواقفها حيال الكثير من الأحداث أن مؤسسات أوربية ومنظمات حقوقية ووسائل إعلام تحالفات فيما بينها من أجل ابتزاز دول الجنوب.. فالاستئثار بورقة حقوق الإنسان نتج عنه مواقف قائمة على ازدواجية المعايير والتسييس وسعي المحور الغربي إلى القيام بدور الدركي الحقوقي. هذه المواقف غايتها تخويف دول الجنوب وإغلاق كل مجالات التفكير في التمكين التدريجي الفردي والجماعي لهذه الدول بقيم حقوق الإنسان، ضمن استراتيجيات تراعي خصوصيتها الوطنية وأولويتها في الأمن والحرية.
حاليا، يبدو أن حالة من الوعي الجمعي بضرورة التخلص من التبعية للغرب في مجال حقوق الإنسان بدأت في التشكل. هذا التوجه كرسه منتدى الرباط العالمي لحقوق الإنسان المنعقد أخيرا بالمغرب، من خلال البحث في خلق تفكير جنوب-جنوب حول قضايا الحقوق. توجه يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية والسياسية والمجتمعية لهذه البلدان، ويحافظ على نهج الانتقال الديمقراطي كخيار وطني ومحصلة للتوافقات الممكنة بين مختلف الفاعلين في المجتمع.