يعيش المثقف غربة حقيقية اليوم داخل الوسط الثقافي. ذلك إنّ دوره لم يعُد مقتصراً على كتابة الشعر والرواية والقصة، أيْ أنّه لم يعُد يعتبر أنّ مهمّته كامنة في ضرورة خلق نوافذ تخييلية تُجمّل الواقع اليومي، بقدر ما تفرض عليه تحوّلات الواقع أنْ يكون منخرطاً في الشأن السياسي والبناء الديمقراطي، بغية تحقيق تواصل مباشر وفعّال مع المجتمع. ورغم ما عُرف عن المثقف خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين من قدرة على التماهي مع السياسة وأوجاعها، إلاّ أنّ تجربة التناوب التوافقي وضعت حداً لاهتمامات المثقف بالسياسة وجعلته يدخل في غيبوبة مميتة بعدما فشلت هذه التجربة السياسية والديمقراطية.
صمت المثقف اليوم فيما يطال الساحة السياسيّة من تحوّلات يبق موجعاً وله حيثيات سياسية نضالية أكثر منها ثقافية. ورغم بقاء عدد من الأسماء التي تحسب نفسها على الثقافة من زاوية الاهتمام بالشأن السياسي لأغراض برغماتية محضة، قرّرت بعض الأسماء الأخرى أنْ تجعل من الأدب ملاذاً لها، بحيث أصبحت تهتمي به من فداحة التحولات المرعبة التي تتسارع وتقفز على سطح المشهد وهي تلتهم كافّة المرتكزات السياسية الأصيلة التي ناضل من أجلها اليسار.
غياب المثقف من الساحة السياسيّة يدفع العديد من أهل السياسة إلى التباهي بكراسيهم وإهماله لدور المثقف وقيمة رأسماله الرمزي. خاصّة وأنّ المثقف ليس مجرّد كائن حالم متقوقع داخل الآداب والفنون، بل تربطه علاقة خاصّة بالمجتمع الذي ينتمي إليه. إهمال السياسي للمثقف اليوم، نابع عن قناعات خاصّة يرى فيها السياسي أنّ المثقف يُشكّل خصماً له، بحكم أنّ هما العديد من الأسماء الثقافية التي لها قاعدة شعبية كبيرة في المجتمع وتملك سلاحاً فتاكاً وقياً يتمثل في الكلمة قدرة هذه الأخيرة على تجييش المجتمع وجعله تابعاً له ولأفكاره ومواقفه. من ثمّ، فإنّ عدم استشارة رجل السياسة للمثقف معضلة أخلاقية تدفع المجتمع من الناحية الثقافية إلى الانهيار، وتُكرّس مبادئ عدم الاعتراف بما يبذله المثقف من مجهودات فكريّة في سبيل تقوية المجتمع وإخراجه من براثين التقليد والجهل التي تعمل العديد من التكتلات السياسية على تكريس وانضاجها.
ينبغي على السياسي أنْ يكون وفياً وصديقاً للمثقف من أجل تكثيف التعاون في عملية الإصلاح والبناء الديمقراطي. إنّنا هنا أمام قوّة ناعمة تستطيع عبرها الثقافة أنْ تصبح عنصراً فاعلاً، ذلك إن المجتمعات لا تبنى على السياسة والاقتصاد، بل بالثقافة أيضاً التي تلعب دوراً في تنمية العقول ودفع الناس إلى الابداع والابتكار. إلاّ أنّ هذه العلاقة لا ينبغي لها أنْ تتخلى على الشرط النقدي بالنسبة للمثقف، لأنه المختبر الحقيقي لتبيئة الأفكار وامتحانها في ضوء السياسة والمجتمع على حد سواء.