تأكد مع توالي الأحداث أن الخطابات والشعارات تستعمل لدغدغة في الغالب العواطف ليس إلا. وتوزعت العوامل التي عرت الواقع الحزبي في المغرب ما بين الاتجار في الممنوعات، والسطو على الملك العام وتورط المنتخبين وقياديين حزبيين وإهدار المال العام، ناهيك عن المشاكل الداخلية التي يتضح أن أبطالها لا يتعبون أنفسهم للبحث عن حلول تأخذ صورة الحزب بعين الاعتبار، وترتقي بالممارسة السياسية.
في البدء كان « البام »
تابعنا كيف أن قضية « إسكوبار الصحراء » التي شغلت الرأي العام الوطني، وتجاوز صداها الحدود الوطنية، أدت بشكل من الأشكال إلى تغيير قيادة حزب الأصالة والمعاصرة « البام »، خصوصا أن عضوين من الحزب نفسه كانا على رأس قائمة المعتقلين المعتقلين على خلفية القضية المذكورة، ويتعلق الأمر بسعيد الناصري، رئيس مجلس عمالة الدارالبيضاء، وعبد النبي بعيوي، رئيس جهة الشرق،.
لقد عجلت هذه القضية بعقد مؤتمر « البام » واختيار دخول مرحلة جديدة تمثلت في تحويل قيادة الحزب إلى الثلاثي فاطمة الزهراء المنصوري، ومحمد المهدي بنسعيد وصلاح أبوغالي، خلفا للأمين العام عبد اللطيف وهبي.
واعتبر المتتبعون أن ما جرى على مستوى حزب الأصالة والمعاصرة، يعد تعاملا جريئا للملمة الوضع، ونكأ الجراح، والعمل على تغيير الصورة السيئة التي ألصقتها قضية « إسكوبار الصحراء » بالحزب.
في الواقع كان اعتقال سعيد الناصري، وعبد النبي بعيوي رقما لا يعني حزبهما فقط، بل يحرج كل من له علاقة بالحقل الحزبي، لأنه رفع آنذاك، عدد أعضاء مجلس النواب المعتقلين إلى ثمانية، غير أن العداد لم يتوقف مع التحاق محمد كرمين، النائب البرلماني السابق وريس جماعة بوزنيقة سابقا بركب الموقوفين بعد اعتقاله رفقة عزيز البدراوي، الرئيس السابق لفريق الرجاء البيضاوي.
كما تواصلت بالموازاة مع ذلك عملية عد البرلمانيين، الذين جرى ويجري تجريدهم من مقاعدهم، لأسباب متعددة، وتعددت أيضا الإعلانات عن الانتخابات الجزئية.
« التصرفيق » والضرب تحت الحزام
ضاعت رمانة ميزان حزب الاستقلال، وهو الذي يستعد لعقد مؤتمره الوطني الثامن عشر بعد الاستقرار على أن يكون نزار بركة، الأمين العام الحالي، مرشحا وحيدا وتيسير عملية توجهه نحو ولاية ثانية.
ففي اجتماع المجلس الوطني لحزب الميزان انتخاب رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر الثامن للحزب شغلت الرأي العام، وفاجأته أيضا فضيحة الصفع « التصرفيق » الذي تعرض له منصف الطوب من طرف محمد سعود، في اجتماع حزبي، خصوصا أن الأول تشبث بقرار اللجوء إلى القضاء رغم تدخلات لثنيه عن ذلك في محاولة لطي القضية.
وقصت قضية « التصرفيق » شريط مسلسل التوقيفات، والقرارات الحزبية وقرار فريقه البرلماني برئاسة نورالدين مضيان، الذي وجد نفسه من بعد في وضع حرج.
في البدء اتخذ قرار إيقاف منصف الطوب وأشرف أبرون، من طرف الحزب، ثم أصدر الفريق البرلماني بلاغا للمطالبة بطرد سعود انتصارا لعضو الفريق الطوب.
ولم تقف مشاكل حزب الاستقلال التي خرجت إلى العلن عند حدود « التصرفيق »، بل تعدته إلى رفع شكاية إلى النيابة العامة بطنجة من طرف رفيعة المنصوري، نائبة رئيس جهة طنجة تطوان الحسيمة، والبرلمانية السابقة ضد نورالدين مضيان متهمة إياه بالسب والقذف والتهديد والابتزاز، في حين جرى تجميد عضويته بمجلس الجهة من قبل فريق حزبه.
كان وراء مشكلة مضيان، التي ما زالت تتفاعل، تداول شريط صوتي مسيء لرفيعة المنصوري، وتبرأ منه الأول، غير أن ذلك لم يحل دون مزيد من التفاعل، إذ ناصرت منظمة المرأة الاستقلالية، رفيعة المنصوري، مؤكدة استياءها البالغ مما جرى ترويجه على خلفية « تسريب تسجيل صوتي يتضمن عبارات جارحة، بل يعتبر مسا بسمعة وأخلاق رفيعة المنصوري، ما يحمل في طياته الكثير من الإيحاءات الخادشة لصورة المرأة المغربية عامة والاستقلالية خاصة »، داعية الأمين العام للحزب إلى التداول مع أعضاء اللجنة التنفيذية للتدارس واتخذ المتعين.
بالمقابل كان توجه المكتب الإقليمي لمنظمة المرأة الاستقلالية بالحسيمة مخالفا لطرح المنظمة الأم وهاجم اللغة التي دبج بها البلاغ معتبرة مضامينه تستهدف مضيان.
ومن الأكيد أن القضيتان اللتان تفجرتا أخيرا ستلقيان بظلالهما على صورة حزب الميزان باعتبارهما خرجتا إلى العلن بالصورة بالنسبة لقضية « التصرفيق » والصوت بالنسبة للشريط الصوتي المنسوب لنور الدين مضيان.
كما يتوقع أن تؤثر القضيتان على مؤتمر الحزب الذي يجري التحضير له، خصوصا أنها أعادت إلى الأذهان التراشق بالصحون في المؤتمر المنعقد عام 2017.
رشيد لبكر: ما كشفت عنه تقارير المجلس الأعلى للحسابات يظهر أن البون شاسع بين النظرية والواقع
يرى رشيد لبكر، استاذ القانون العام، في كلية الحقوق جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، متحدثا لـle360، « أن خطاب الشفافية والتخليق شهد حيوية كبيرة ببلادنا منذ مدة ليست باليسيرة، فقد رأينا كيف أن التحقيقات شملت العديد من القطاعات، وأطاحت المتابعات بالعديد من الرؤوس المتهمة باستغلال المال العام لمصلحتها الشخصية.
أضاف أن « نشاط لجن المراقبة مركزيا ومحليا يتميز اليوم بحيوية كبيرة بغض النظر عن مآلات التقارير التي تصدر عنها، وأعتقد انه من الطبيعي جدا، خضوع الأحزاب بدورها لهذا النوع من التحقيقات مادامت تستفيد هي أيضا من المال العام في تمويل أنشطتها. فحتى لا يتحول هذا الأخير إلى ريع ومال سائب، من الواجب مراقبة أوجه صرف هذا الدعم، تماشيا مع مقتضيات الدستور وقانون الاحزاب ومبادئ الحكامة الرشيدة التي يدعو إليه الجميع ولاسيما الأحزاب ذاتها، إذ لا أحد فوق المساءلة ».
لأجل ذلك يقول الأستاذ لبكر « يمكن القول إن هذه الإجراءات الرقابية إيجابية ومستحبة، ولا يجب تنزعج الأحزاب منها، بل على العكس، يفترض أن تكون من اول المرحبين بها وبأي إجراء مشابه يرمي إلى حفظ المال العام، بل وأن تكون (الأحزاب) مبادرة للدعوة إلى الإجراءات الرقابية إثباتا لنظافة اليد وترسيخا لمنهجية الشفافية والقبول من حيث المبدأ بالمساءلة تحصينا لمصداقية الخطاب ».
ولفت إلى أن « ما كشفت عنه تقارير المجلس الأعلى للحسابات يظهر أن البون شاسع بين النظرية والواقع، إذ من المؤسف جدا ما ضمنه مراقبو المجلس الأعلى في تقاريرهم، والتي بينت بأن « فلوس الدعم » أصبحت مع الأسف عبارة عن بقرة حلوب بالنسبة لقيادة بعض أحزاب « الصفوة »، التي بدت مطوقة بعدد من الوقائع والملاحظات التي تحتاج إلى أجوبة، وحتى في حال إنكارها للوقائع الواردة في تقرير المحققين، فالأصل أن على هذه القيادات، التحلي بأخلاق التعفف ودرء الشبهات وترك مجال الدراسات لأصحابه المتخصصين، فليس صدفة أن كل المستفيدين من الدعم أسسوا شركات متخصصة في إنجاز الدراسات، وكأن مجال الاستثمار منحصرا فقط في مثل هذه الأنشطة، اللهم إن كانت هذه الشركات أسست فقط على مقاس الدعم ولغاية الانقضاض على الكعكة التي تسيل اللعاب، وربما ما خفي في باقي الأحزاب أعظم... ».
وعدد مظاهر الصورة السلبية بالقول: « ما بين تهم الاتجار في الممنوعات وتحويل اموال الدعم إلى الدراسات الوهمية ومرورا بشبهات أخرى، يظهر ان المشهد الحزبي ببلادنا مريض وليس على ما يرام إطلاقا، وهذا لن يزيد إلا من مضاعفة منسوب الغضب والنقمة عليه من قبل المواطنين، بل ويعطيهم الدليل على صدقية تمثلاتهم السلبية إزاءه وإزاء لكل من يلعب فيه.
لقد بدأنا الآن نخرج من طور كان يدعى فيه أن أداء الأحزاب محدود بحجة أنها مخترقة من قبل المخزن (بمعنى الدولة) الذي يخطط لإضعافها باعتبارها منافسه الأول على السلطة، إلى طور جديد، أضحت فيه محدودية هذا الأداء مرتبطة بضعف الأحزاب ذاتها، وبأن المشكل الحقيقي، يكمن فيها ولا يمكن ان تلصقه بغيرها « حينت كون كان الخوخ يداوي كون داوا روسو ».
إن المشهد الحزبي ببلادنا يمر بمرحلة هي الاسوأ في نظري منذ بداية الاستقلال، وإن إسعاف ما اعترى ويعتري الأحزاب من علل، هو الآن بيد الأحزاب ذاتها، قيادة ومناضلين، ولا يمكنها تعليق فشلها على الآخر ».
عبد العزيز قراقي: التدبير المالي والإداري للأحزاب السياسية لا يخضع لمعايير الحكامة والشفافية والنزاهة
أكد عبد العزيز قراقي الأستاذ الجامعي ونائب عميد كلية الحقوق بالرباط
لـle360 أن المنظومة الحزبية في المغرب « في حاجة إلى إعادة النظر لأنها لم تستطع لعب الأدوار التي حددها لها الدستور كما يجب، فمهمة التأطير باعتبارها مهمة أساسية بالنسبة للأحزاب السياسية اختزلت في لحظة الانتخابات فقط، ولم نعد نسمع لا عن مهرجانات، أو دورات تكوينية، أو ممارسات سياسية تسعى إلى تأطير المناضلين، وتكوينهم ما بين فترات الانتخابات ».
وأوضح قراقي أن الأحزاب السياسية وضع الأحزاب وحركيتها شهدت تحولات فـ »مباشرة بعد أن تدخل فترة الانتخابات، وتحصل على عدد من المقاعد، تدخل فترة تحصيل الريع، فما بين الدورتين يكون الهم هو الاستفادة منه نعم هذا الريع، وهذا يبدو أنه يقود الأحزاب إلى مسارات ومتاهات بدت نتائجها الآن.
لم تعد الأحزاب السياسية تتحرى البحث عن مناضلين وتفتح أبوابها لكل آت وكل من له القدرة المالية على تمويل الحملات الانتخابية والمساهمة فيها. ولم تعد تولي أهمية كبرى مثلما كانت الأحزاب السياسية تفعل في الماضي، بمعنى أن التكوين ينصب على الشبيبة واليافعين ثم بعد ذلك التدرج عبر مختلف خلايا الحزب إلى الوصول إلى التمثيلية المحلية والجهوية ثم الوطنية ثم الوصول إلى المكتب السياسي الذي يكون ثمرة نضال طويل وممارسات يتعلم فيها المناضل الكثير من الأشياء ».
وأضاف قراقي « ما أصبحنا نعيشه هناك بعض الأشخاص يلتحقون بالحزب قبيل الانتخابات، ثم بعد ذلك مباشرة يتبوؤون مكانهم في المكتب السياسي، بناء على ما يملكونه من إمكانيات تسمح لهم بالحصول على أكبر عدد من الأصوات، وتسمح لهم بالمساهمة في تمويل العملية الانتخابية. هذا الأمر أحدث اختلالات داخل الأحزاب السياسية، فمن المعروف أن المناضل حين يأتي إلى الحزب، وهو لا يتقاسم معه منظومته الفكرية، فإن هذا الأمر يولد لديه الشعور بأن الحزب مدين له وليس العكس. كما أنه يخلق نوعا من العلاقات البراغماتية التي تجعل الشخص الملتحق بالحزب يحصل على هوية سياسية تكون في الغالب الأعم قنطرة عبور للوصول إلى التمثيلية الجهوية أو البرلمانية، لكن دون أن تكون للحزب إمكانيات للتحري عن هذا الشخص، وعما إذا كان يتقاسم مع الحزب نضالاته وأفكاره. هذه الأشياء أدت إلى ظهور أمور لم تكن معروفة من قبل في المغرب على مستوى الأحزاب السياسية.
فاليوم يستوقف الباحث عدد البرلمانيين وعدد ممثلي الأحزاب المتابعين في ملفات قانونية الكثير منها مرتبط بالمال، وهذا ما يتعارض مع الانتماء الحزبي بصفة عامة ».
وبخصوص التدبير المالي للأحزاب قال: « اتضح أن التدبير المالي والإداري للأحزاب السياسية لا يخضع لمعايير الحكامة أو معايير الشفافية والنزاهة. ولعل مسألة الأموال الممنوحة للأحزاب السياسية من أجل تمويل الدراسات والتي أثبتها المجلس الأعلى للحسابات في تقريره الأخير تؤكد هذا الأمر، وتوضح أن الأحزاب السياسية لم يعد يهمها معرفة المجتمع وكيفية اشتغاله، ولا إنجاز الدراسات التي يمكن أن تساهم في تطوير الحياة السياسية في المغرب. وأصبح السياسي عندنا مرادفا لتوزيع المنافع المالية، واقتسام المنافع، وإيصال أشخاص إلى مناصب مهمة تدر دخلا محترما، وهذا بطبيعة الحال أمر مخالف للديمقراطية، ولا يمكن أن يسهم في تقدم الحياة السياسية في بلادنا ».
وأضاف « نحن الآن في منعطف أساسي يفرض أولا مراجعة الأساليب وكيفية تمويل الأحزاب السياسية.
يبدو لي أن التقنية التي اعتمدت في تمويل الأحزاب السياسية في حاجة
إلى إعادة النظر، إذ تعطي أهمية لعدد الأصوات التي حصل عليها الحزب والمقاعد التي فاز بها في الانتخابات، لكن لا تعطي أهمية لأمور أخرى مرتبطة بالتأطير، فلا تعطي مثلا اعتبارا لعدد الدورات التكوينية التي نظمها الحزب، وعدد الأفراد الذين أطرهم، فأصبح ما يتحقق في الانتخابات بمثابة ريع يدر على الحزب مداخيل جديدة، وهذه المداخيل يساء تدبيرها في غياب الشفافية والنزاهة والحكامة.
نحن نعلم اليوم بالنسبة للأحزاب السياسية حتى في ما يخص تمويل حملات الانتخابات، هناك قلة يكاد يعرف قادتها هي التي ترد إلى خزينة الدولة الأموال التي لم توظفها، وتعتبر فائضا لديها. ما عدا ذلك فالأحزاب السياسية تهتم اليوم بما هو مالي أكثر من أي شيء آخر، لهذا يمكن القول إن إشعاعها تراجع على مستوى تأطير المواطنين وإنتاج المشاريع الفكرية.
كيف يمكن لمجتمع أن يسير على المستوى السياسي إذا لم تكن الأحزاب قادرة على إنتاج مشاريع فكرية وسياسية ونظريات اقتصادية وآراء وأن تكون لها علاقة مع الجامعة و...؟ ما هو دور الحزب السياسي؟ هل ينحصر في أن يكون له زعيم يدبر الأمور ويتموقع على رأس الهرم، لتدبير أموال الانتخابات؟
ليست هذه فلسفة الحزب، فهو مكون أساسي يعبر عن أرائه في المجتمع
يجسد تيارا فكريا يدافع عنه، ويسعى إلى الوصول إلى الحكومة من أجل إعمال مشروعه الفكري، وإلا فإن الأحزاب السياسية، وإن كنت لا أتفق مع هذا الرأي، لم يعد المجتمع في حاجة إليها، ثم هناك أحزاب ذهبت إلى حد أنها تجرأت على المجلس الأعلى للحسابات، وأصبحت تشكك في آرائه وكيفية دراسته وهذا يبين إلى أي حد المنظومة الحزبية في بلادنا في حاجة إلى إعادة النظر ».
وخلص قراقي إلى أن الأحزاب السياسية « ما عادت اليوم حاضرة على مستوى الجامعات ولم تعد قادرة على استقطاب الطلبة والأساتذة الجامعيين والمفكرين، ولم تعد حلبة للإنتاج الفكري أتذكر أن الوثائق السياسية للأحزاب يسعى الناس إلى قراءتها وفهمها، وتعتبر وثائق مؤطرة أتذكر كيف كانت الأحزاب السياسية في بلادنا تؤطر الناس عندما كانت سياسة التقويم الهيكلي وكيف كان الناس يفهمون المصطلحات من خلال خطب وبرامج الأحزاب السياسية ».
وختم حديثه لـle360 بالقول « إن الأمور تراجعت، وأؤكد أن الأحزاب السياسية لدينا أضحت تشكل عبئا على الحياة السياسية، أكثر من أن تشكل فاعلا أساسيا يؤطر ويلعب دور الوساطة بين المجتمع والسلطة، ولهذا مسألة الدراسات، هاته التي طرحت أخيرا، أوضحت إلى أي حد نحن في حاجة إلى إعادة النظر وتصالح السياسي مع المجتمع، فعندما نشرع في الحديث عن العزوف السياسي والانتخابي فيبدو لي أن إصلاح الأحزاب السياسية هو أحد المداخل الأساسية ».