من قبل كانت مثل هذه الزيارة تعتبر حدثا حقيقيا، تسبقه تحضيرات مكثفة، مع انخراط الحكومة والأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية وغيرها، وتحيط بها تغطية إعلامية واسعة. في المغرب كان الزمن يتوقف وكانت الأخبار السياسية في المملكة تتوقف على هذه الزيارة. هذا بالإضافة إلى الصخب الكبير الذي يحدثه في مثل هذه المناسبات خصوم المغرب، الجزائر وربيبتها جبهة البوليساريو. هذه المرة، لم يحدث شيء من هذا القبيل.
كانت زيارة المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، ستافان دي ميستورا، إلى الأقاليم الجنوبية للمملكة عادية، وهي الزيارة التي انطلقت يوم الاثنين 4 شتنبر 2023، والتي ستتوج بلقاء مرتقب غذا الجمعة بالرباط مع وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة. ورغم أن الزيارة هي الأولى من نوعها في الأقاليم الجنوبية، إلا أن النشاط كان عاديا للغاية.
وعلق عبد الفتاح نعوم، المحلل السياسي والمختص في العلاقات الدولية وبخاصة في ملف الصحراء، قائلا: « تأتي زيارة دي ميستورا إلى المغرب في إطار أجندة الأمم المتحدة وفي إطار قرارات مجلس الأمن 26-02 و26-54 التي تتعلق بإشراك أطراف النزاع. وهي تعكس الواقع الجديد للقضية، لأن دي ميستورا عاين التطورات الكبرى التي تعيشها الأقاليم الجنوبية، خاصة العيون والداخلة، مع منتخبين ونخبة تعمل في إطار ديمقراطية محلية حقيقية، وسكان يعيشون في سلام، واستقرار سياسي وأمن شامل، وبنيات تحتية ضخمة ومشاريع تنموية طموحة ».
وبينما يتحدث خصوم المغرب منذ 3 سنوات عن هجمات مسلحة وعن حالة الحرب في الصحراء، فإن زيارة دي ميستورا الناجحة قدمت دحضا قاطعا للدعاية الإعلامية للجزائر ولجبهة البوليساريو. وقال نعوم بنوع من التهكم والسخرية: « لقد عاين دي ميستورا حجم الخسائر: مدن حديثة، مؤسسات شرعية، شباب متحمسون يتطلعون إلى المستقبل ».
وسار محمد بودن، الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط ومدير مركز أطلس لتحليل المؤشرات السياسية والمؤسساتية، في الاتجاه ذاته، عندما قال: « مهما كانت أهمية هذه الزيارة، وقبل كل شيء بالنسبة لدي ميستورا، فإنها ليست حدثا في حد ذاتها. إنها زيارة عادية على اعتبار أنها تدخل في إطار جولة في المنطقة، وخلاصاتها ستكون كأساس لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول هذه المسألة وقرار مجلس الأمن المقبل بشأن هذه القضية، المتوقع في نهاية أكتوبر المقبل ».
لم يذكر البيان الصحفي للأمم المتحدة الذي أعلن عن الزيارة للمراسلين أي شيء غير ذلك. الزيارة هي خطوة ستتبعها خطوات أخرى. وأوضح قائلا: « إنه (دي ميستورا) يتطلع إلى القيام بزيارات إلى المنطقة وعقد اجتماعات تشمل كافة الأطراف المعنية قبل صدور تقرير الأمين العام الذي سيقدم إلى مجلس الأمن في أكتوبر المقبل ». والهدف هو « تعميق المشاورات مع جميع الأطراف المعنية من أجل التقدم بشكل بناء في العملية السياسية بشأن الصحراء الغربية ».
وفي هذا الصدد، تتزامن زيارة دي ميستورا إلى الصحراء مع الجولة الإقليمية التي يقوم بها نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون شمال إفريقيا، جوشوا هاريس. وقد التقى هذا الأخير يوم السبت 2 شتنبر بتندوف بزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، ويوم الأحد 3 شتنبر بالجزائر العاصمة مع وزير الشؤون الخارجية أحمد عطاف. وهي فرصة للتأكيد على « أهمية الدعم الكامل والمشاركة مع المبعوث الشخصي للأمم المتحدة، الأمين العام ستافان دي ميستورا، بروح من الواقعية والتوافق ».
كما وصل جوشوا هاريس أمس الأربعاء إلى الرباط لإجراء محادثات مع ناصر بوريطة. وأوضح لنا مصدر ديبلوماسي أن « زيارة هاريس ترتبط ارتباطا وثيقا بإعادة إطلاق العملية السياسية بهدف التوصل إلى حل واقعي للنزاع المفتعل في الصحراء الغربية. يريد الأميركيون استئناف هذه العملية، خاصة أن هذا الأمر يعتبر جزءا من الاتفاق المبرم بين الرباط وواشنطن: الحفاظ على الاعتراف بمغربية الصحراء مع إعادة إطلاق العملية السياسية ».
وأشار مصدرنا إلى أن عملية إحياء العملية السياسية تواجه ثلاث عقبات. الأولى تتعلق بالشكل المعتمد للموائد المستديرة والذي أوصى به مجلس الأمن ولكن الجزائر ترفض المشاركة فيها. والثانية هي أن المغرب يطرح، بشكل مشروع، مسألة جوهرية مرتبطة برغبة جميع الأطراف في البحث عن حل واقعي. « أما العقبة الثالثة فتتعلق بالسياق الإقليمي والدولي غير الملائم. وحتى لو أرادت واشنطن الدفع في اتجاه إحياء العملية السياسية، فإن السياق الإقليمي مع القطيعة الدبلوماسية بين الجزائر والرباط، أو السياق الدولي مع الحرب في أوكرانيا لا يساعدان على ذلك. اليوم، هناك عملية تفاوض متوقفة »، يوضح محاورنا.
وتبقى الحقيقة أن جبهة البوليساريو وراعيتها الجزائر خاسران دبلوماسيا. أما عسكرياً، فالأمر أسوأ. وعلى الرغم من تصريحاتها الحربية الحماسية، فإن جبهة البوليساريو تحتضر. يؤكد عبد الفتاح نعوم قائلا: « منذ إعلان زعيم جبهة البوليساريو عن استئناف الحرب في نونبر 2020، لم يحدث شيء على الإطلاق. والأسوأ من ذلك هو أن عناصر البوليساريو عالقون في قواعدهم خوفا من تحييدهم بواسطة طائرات بدون طيار التابعة للقوات المسلحة الملكية. الشيء الوحيد الذي لا يمكن دحضه اليوم هو أن جبهة البوليساريو عاجزة عسكريا ومعزولة دبلوماسيا ». وبحسبه، يبقى أن نعرف ما إذا كانت الجبهة الانفصالية ستقبل بهذه العزلة التي ستؤدي حتما إلى زوالها، رغم النفقات الباهظة التي يتكبدها نظام الجزائر، أو ما إذا كانت ستظهر نوعا من الواقعية.