التوقيت الذي صدر فيه هذا العدد، والرسائل المبطنة التي يحملها بل وحتى الإشارات الواضحة، حيث ترى مثلا الصحيفة أن تعامل فرنسا مع هذه الأنشطة المغربية يتسم « بقدر كبير من السلبية »، يجعلنا نعيد قراءة هذا العدد والبحث في خطابه الخفي للدولة العميقة الفرنسية، أي الخطاب اللامقول والمسكوت عنه، والبحث عن الغايات والأهداف.
قلت، وأنا أعيد قراءة هذا العدد، استوقفني كثيرا العنوان « كيف يحاصرنا المغرب؟ » وانطلقت في حوار ذاتي، من يحاصر من!؟
إن أكبر حصار عرفه المغرب عبر التاريخ، تجلى في لحظة الإعلان عن استقلال المغرب سنة1956، حيث وجد المغرب نفسه محاطا بالحدود الموروثة عن مرحلة الاستعمار، ويشهد شاهد من أهلها، أستاذ العلاقات الدولية والخبير في تاريخ المغرب، الفرنسي Bernard Lugan حيث أكد أن المغرب يعتبر دولة قومية (Etat-Nation) من أقدم الامبراطوريات القديمة بترت منها أجزاء من ترابها في عهد الاستعمار خلال الحماية الفرنسية آنذاك في القرن التاسع عشر... مما مكن فرنسا من بتر أجزائه الشرقية عندما كانت في طور إنشاء الجزائر، وبذلك تراجعت حدود المغرب الشرقية كثيرا في اتجاه الغرب، وحوصر مغاربة في هذه المناطق وهم يعذبون حتى الآن من قبل السلطات الجزائرية، كلما نادوا بمغربيتهم، ناهيك عن أن أصل النزاع الحدودي الذي خطط له من أجل تقسيم واستنزاف المنطقة، انطلق منذ هذا التاريخ.
وغداة الإعلان الرسمي عن استقلال المغرب وإلغاء معاهدة الحماية في 2 مارس 1956، ظل المغرب تحت الوصاية الاقتصادية الفرنسية بحكم مجموعة من العوامل الموضوعية التي رسختها الإدارة الفرنسية في عهد الحماية أهمها: رواج العملة الفرنسية والخضوع لوحدة جمركية مع فرنسا وهيمنة البنوك الفرنسية والرأسمال الفرنسي على الاقتصاد الوطني.. فضلا أن المغرب كان ملزما إلى غاية سنة 1959 بتوجيه صادراته حصريا نحو فرنسا، واستيراد حاجياته بالمرور إجباريا عبر باريس لكونها كانت المصدر الوحيد للعملة، بل وإمعانا في محاصرة المغرب، حرصت الحكومة الفرنسية آنذاك على وضع المغرب في إطار ما سمته « الترابط الوثيق والدائم بين البلدين على المستويين المالي والاقتصادي »، حيث جاء في ورقة توجيهية لوزارة الخارجية الفرنسية حول تدبير مفاوضات الاستقلال مع الحكومة المغربية ما يلي: « يجب أن نحصل على قبول المغاربة البقاء ضمن منطقة الفرنك الفرنسي من جهة ، ومن جهة ثانية موافقتهم على خلق وحدة جمركية بين البلدين حالما تسمح الظروف بذلك ».
إن فرنسا كانت ترغب في استمرار حصارها المالي والاقتصادي على المغرب تحت ذريعة ما يسمى الترابط الاقتصادي، حيث دأبت الحكومات الفرنسية على التعامل مع المغرب باعتباره مجالها الحيوي وحديقتها الخلفية، محاولة التحكم عبر أساليب الضغط والابتزاز من أجل تكريس التبعية وضمان المصالح المادية والاستراتيجية، ولم تكن قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية من أولويات الحكومة الفرنسية، بل إن الساحر الفرنسي عرف كيف يوهم الجمهور بإتقانه المحترف لتبديل القبعات في سيرك السياسة الدولية حتى ينال أفضل الإكراميات.. لعل آخرها الفوز بصفقة القطار فائق السرعة بين طنجة والدار البيضاء.
لقد ناضل المغرب كثيرا للخروج من هذا الحصار الفرنسي بالتدريج في التحام بطولي بين العرش والشعب، حيث إن أول حكومة مغربية رفعت هذا التحدي بتدشينها أولى فصول المواجهة حينما قررت تأميم بنك المغرب وانتزاعه من القبضة الفرنسية والخروج من منطقة الفرنك الفرنسي بإنشاء الدرهم كعملة وطنية وتأسيس بنك المغرب في 1 يوليوز 1959 والذي اعتبر في وقته استقلالا ثانيا للمغرب، وبهذه الخطوة دشن المغرب استقلاله المالي والاقتصادي، وتم التوجه بعد ذلك بتصفية ما تبقى من تركة الحماية والخروج نهائيا من جميع أشكال النفوذ الفرنسي.
واليوم ، وبعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وبعد أن نجح المغرب في إرساء مؤسساته السياسية والاقتصادية، وأصبح قوة إقليمية صاعدة في المنطقة، وبعد الاختراق المغربي لإفريقيا حيث أضحت المملكة المغربية أول مستثمر في غرب إفريقيا والثاني على مستوى القارة متقدما على فرنسا التي ظل إفريقيا مجالا محفوظا تابعا لها في إطار تقسيم مناطق النفوذ الدولي، مما جعل الدولة العميقة في فرنسا تشعر بقلق كبير، لأنها اعتبرت الاستثمار المغربي في غرب إفريقيا تهديدا مباشرا لمصالحها وإضعافا للهيمنة الاقتصادية الفرنسية على هذه المنطقة، مما أدى إلى تصريف هذا الموقف في مجموعة من ردود الأفعال المسيئة للدولة المغربية ورموزها.
إن فرنسا لم تستسغ التغيرات التي عرفها المحيط الإقليمي والدولي ولم تحاول أن تستوعب أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، ولم تستوعب مضمون الخطاب الملكي في ذكرى المسيرة الخضراء 2021، والذي شدد على معيار مغادرة « المنطقة الرمادية « لإقامة الشراكات الاقتصادية والتجارية مع الدول، وهو نفس الموقف الذي عبر عنه ملك البلاد في ذكرى ثورة الملك والشعب 20 غشت 2022″.
ملف الصحراء المغربية هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات».
إن الدولة العميقة التي تتحكم في مؤسسات فرنسا، عليها أن تدرك جيدا أن زمن الاستعلاء والابتزاز السياسي قد ولى إلى غير رجعة، وأن المغرب الدولة الأمة يروم إلى تدشين مرحلة جديدة مبنية على الاحترام المتبادل والوضوح والثقة والتعاون والمساواة من أجل المصلحة المشتركة وفق آليات جديدة.. أما صاحب المقال المعلوم، فإنني أحيله إلى قراءة رواية « الحصار » للروائي الألباني الأصل اسماعيل كاداريه، التي يسلط الأضواء فيها على الأحداث التي تعرضت لها بلاده إبان الحكم العثماني.
هذا الكتاب هو أكثر من رواية، إنه ملحمة تجسد الصراع بين المستعمر والشعوب المدافعة عن حريتها، نستشف منها الحالة النفسية والروح المعنوية لكلا الطرفين في حالتي السلم والحرب، حيث ينتصر صمود صاحب الحق في نهاية المطاف... رجاء...رجاء... وأنت تقرأ هذه الرواية، فكر مليا في عنوانك وصارح نفسك ولو مرة واحدة... من يحاصر من...؟!