وقد يكون الحكم العسكري متخفيا في لباس مدني، وهذا شكل من أشكال الدولة العسكرية المقنعة، حيث تمارس فيها الآليات الديمقراطية لكن في إطار مقيد، يسمح للجيش بالتوجيه والتدخل، كما يقع حاليا في الشقيقة الجزائر، حيث يمسك نظام عسكري فاسد بمقاليد السلطة منذ ستين سنة.
يتميز هذا النظام باللعب على الحواس وإثارة العواطف عبر الترويج لأسطورة دم الشهداء وقدسية الجماجم، ويعمل على تهييج الجماهير ضد العدو الخارجي المفترض، من أجل إلهاء الشعب وترويضه وتحجيم أي محاولة لكسر عصا الطاعة للجنرالات، وكل رأي حر مخالف ينعت بالغدر والخيانة والتآمر مع قوى خارجية.
إنه نظام يقوم على سياسة التخويف والتخوين ومحو الذاكرة، حتى يمنع الالتفات إلى التاريخ الحقيقي. وهو مهووس بحقائق التاريخ، لذا فهو يمحو ماقبله ويكتب فقط ماسوف يحصل وفق إرادته ، يمارس هواية التعديل والتزييف والتغيير والتضخيم والإنكار، مستعينا بأشباه مؤرخين حتى يكونوا شهود زور في حفل تنكري ويغذوا الخيال الشعبي بالعديد من الخرافات والأساطير.
وهذا النظام البائد لايملك مشروعا سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا. إنه يسير بالبلاد إلى الإفلاس والانهيار التام، يبذر الثروات الطاقية ويشتري الذمم والأصوات والمواقف ويراكم الثروات خارج البلاد وفي شراء أسلحة الخردة والتي خصص لها هذه السنة مثلا أزيد من اثنين وعشرين مليار دولار، وهو مبلغ يكفي لإحداث تغيير شامل في حياة الشعب المغلوب على أمره.
ونجد أن هذا النظام مهووس بلعبة" تبادل الأدوار" بل بات يتقنها أبطاله إلى درجة التماهي مع الشخصيات وفق مدرسة مسرح الطريقة الروسي التي تؤكد على ضرورة أن يتماهى الممثل مع الشخصية/ الدور وفق أبعادها الثلاث، بل هناك من يشبه لعبة "تبادل الأدوار" بما وقع في الأسطورة الإغريقية، حيث الإله جانوس ذي الوجهين، كما تجلى ذلك بشكل واضح في القمة العربية الأخيرة : وجه للرئيس تبون الذي مثل دور الرئيس، ووجه آخر لشنقريحة الجالس خلفه والقابض بوسيلة التحكم من خلف ستار.
لمثل هذه الأسباب خاض الحراك الشريف معركته رافعا شعار "كلهم فاسدون" حيث كانت أول مطالبه أن" يزول النظام بكامله" لفسح الطريق لحكم مدني ديمقراطي، وليس تبادل الأدوار في لعبة السلطة العسكرية الجزائرية.
ونجد أن هذا الوضع البئيس هو الذي جعل حزب جبهة القوى الاشتراكية الجزائري ينادي في هذه الأيام بضرورة رفع "الحصار السياسي والأمني" المفروض على البلاد، لأن الجزائر يضيف بلاغ الحزب في حاجة اليوم إلى " نخبة سياسية حقيقية قادرة على تقديم مشروع مجتمعي جدي".
لقد حول "الجنرالات" البلد إلى نظام سلطوي، ولم يفلح الجيش في ترتيب وضعيته إلى مؤسسة عسكرية لها استقلاليتها وهيبتها وتعمل على تطوير قدراتها المهنية والاحترافية، وهذا الإخفاق هو الذي يغذي الصراع مع القوى الحية المتطلعة إلى حياة مدنية في إطار دولة المؤسسات.
لقد اغتال العسكر الخيال الجماعي والإبداع الإنساني في مختلف تجلياته، وثمة خوف وقلق ورهبة تسود المجتمع. إن مايقع يشبه كثيرا أوضاع أمريكا اللاتينية في القرن الماضي، لأن ثمة ماحصل عندهم ويحصل عند الأشقاء حين يقمع الرأي ويصير الاختلاف جرما، كما كتب عن ذلك ماركيز ويوسا و إيزابيل الليندي وغيرهم. لكن ما أثارني في هذا الأدب اللاتيني، هو تيار "الواقعية السحرية" الذي رصد التغيرات التي مرت بها مجتمعات هذه المنطقة، ونجد أبرز معبر عن ذلك الواقع يكمن في رواية "الفردوس على الناصية الأخرى" للكاتب البيروفي ماريو برجاس يوسا، والعنوان مأخوذ من لعبة أطفال حيث يقف الطفل على دائرة ويقول لزملائه (هل الفردوس هنا؟) فيجيب زملاءه (كلا ياسيدي، جرب مرة أخرى فربما الفردوس على الناحية الأخرى..!) أما فردوس هذه الرواية المقصود هو السعادة في أبهى تجلياتها التي يضيع المرء في البحث عنها وهي تنتظره في الناحية الأخرى...
أيها الأشقاء... خلاصكم يوجد في الناصية الأخرى، ناصية الحرية والديمقراطية ودولة المؤسسات... نعم إنها طريقكم إلى الخلاص حتى لا يتجاوزكم التاريخ...!!