ويرى مهتمون بالشأن البرلماني والسياسي بالمغرب أن الدخول البرلماني لهذه السنة يأتي في سياق خاص يفرض على البرلمان بمجلسيه التفاعل مع الدينامية والآفاق التي فتحها خطابا جلالة الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش وذكرى ثورة الملك والشعب.
وبدون شك فقد رسم خطابا جلالة الملك خارطة طريق لتسريع الأوراش الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، والتي سيتعين على الحكومة أن تبلورها وتترجمها على أرض الواقع سواء على المستوى التشريعي وأساسا عبر مشروع قانون المالية أو مشاريع القوانين التي ستعرض على أنظار المؤسسة التشريعية للمصادقة عليها، أو عبر تقوية العلاقات المؤسساتية مع البرلمان.
وفي هذا الصدد، أبرز محمد بودن، محلل سياسي ورئيس مركز "أطلس لتحليل المؤشرات السياسية والمؤسساتية"، في حديث خص به وكالة المغرب العربي للأنباء، أن تفعيل مضامين الخطب الملكية يبقى أهم رهان يواجه البرلمان، مسجلا أن المؤسسة التشريعية، في إطار ما يمنح لها الدستور من صلاحيات، مطالبة بتحقيق متواليات من العمل قائمة على وضع خطط واضحة ومحددة المعالم، معتبرا أن العمل الذي ينتظر المؤسسة التشريعية هذه السنة يكمن في التجاوب مع الأولويات التي تحتل الصدارة على الصعيد الوطني وخاصة ما يتعلق ببلورة رؤية حول النموذج التنموي الجديد وتحقيق عمل دبلوماسي برلماني يخدم القضايا الوطنية بما يحقق التكاملية مع عمل باقي الفاعلين، علاوة على الأداء التشريعي الذي سيمكن المغرب من ترسانة قانونية استراتيجية متعلقة بمجالات حيوية.
وأبرز الباحث أن السياق المتزامن مع الدخول البرلماني الحالي محاط بتحولات اقتصادية واجتماعية يجب على المؤسسة التشريعية أن يتفاعل معها، وبالتالي فإن المطلوب هو تدشين "عهد برلماني جديد يستلهم روح الخطب الملكية ويحقق الحكامة البرلمانية وتجويد العمل وتحديد أهداف هذه الدورة من أجل مسار برلماني لا يغلب السياسة على العمل البرلماني"، مشددا على أنه يتوجب المعارضة البرلمانية، بالخصوص، "استثمار الحقوق المتوفرة لها بموجب الدستور من أجل التأسيس لسلوك برلماني واقعي". وشدد على أنه يتعين على البرلمان، خلال الدخول البرلماني الجديد، العمل من أجل كسب "رهان التغلب على الصورة المرتبطة بالمؤسسة التشريعية لدى الرأي العام، وإنتاج نظرية برلمانية سياسية تتجاوز التسويغ إلى تقديم حلول واقعية وخاصة فيما يتعلق ببلورة رؤية بشأن القضايا الملحة واستثمار الصلاحيات الدستورية على الوجه الأمثل في مجالات التشريع والرقابة والدبلوماسية البرلمانية"، مضيفا أن البرلمان أمامه أيضا تحديات ماثلة أبرزها ترسيخ المعاني الإيجابية للسياسة.
ويرى الباحث محمد بودن أن ثمة معالم أساسية لأولويات الدورة التشريعية القادمة، وتتمثل في دراسة مشاريع قوانين استراتيجية ومهيكلة أبرزها مشروع القانون المتعلق بالخدمة العسكرية، ومشروع القانون - الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتعليم، ومشروع القانون المتعلق بالمراكز الجهوية للاستثمار، علاوة على مشروع قانون المالية برسم سنة 2019، وعدد من الاتفاقيات والبرتوكولات المتعلقة بالتزامات المغرب تجاه شركائه.
فعلى المستوى التشريعي، سيتوجب على البرلمان العمل على استثمار وتدبير الزمن التشريعي بما يكفل من إخراج والمصادقة على مشاريع النصوص القانونية التي تكتسي راهنية وأهمية قصوى على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وفي هذا السياق، قال عبد الحفيظ إدمينو، أستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس بالرباط، إن من ضمن الرهانات المطروحة على البرلمان خلال الدورة التشريعية المقبلة الانكباب على الأوراش ذات الأولوية، وفي مقدمتها تلك التي تم تحديدها من قبل جلالة الملك في خطابي العرش وثورة الملك والشعب، فضلا عن الاستمرار في تفعيل الدستور، بعد مرور سبع سنوات على اعتماده، وأساسا إخراج القوانين التنظيمية المتبقاة ذات الأهمية والمتعلقة أساسا بالإضراب الذي له صلة مباشرة بملف الحوار الاجتماعي، وكذلك ترسيم اللغة الأمازيغية في الحياة العامة.، مسجلا بالمقابل أنه بالنظر لمرور سنتين على التجرية الحكومية والبرلمانية الحالية فإن الوتيرة التشريعية تبقى " ضعيفة " مقارنة مع باقي الولايات التشريعية.
وأضاف الأستاذ إدمينو أن هناك أوراشا أخرى تم تحديدها في الخطب الملكية، وخاصة تلك التي تهم الورش الاجتماعي (التعليم والشغل) فضلا عن تشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة، وهو ما ستتم ملاحظة مدى تفاعل المؤسسة التشريعية معها من خلال مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2019، وكذا تنفيذ البرنامج الحكومي في كافة المجالات الاقتصادية والحقوقية والاجتماعية والثقافية، فضلا عن إعطاء الأهمية لمجموعة من النصوص القانونية ولاسيما المتعلقة بميثاق اللاتركيز الإداري والمراكز الجهوية للاستثمار، خاصة وأن هذه السنة تأتي في منتصف الولاية الحكومية. كما لفت إلى أنه يتعين، خلال الدورة التشريعية المقبلة، أيضا "تغيير تعاطي الحكومة مع مقترحات القوانين، خاصة تلك المقدمة من قبل المعارضة، بما يمنح لموقع المعارضة البرلمانية مدلولا سياسيا بعيدا عن المنطق العددي للأغلبية".
وعلى مستوى تفعيل بعض الاختصاصات الأخرى للبرلمان، يظل من بين التحديات المطروحة مع الدخول البرلماني الجديد، حسب الأستاذ إدمينو، مسألة تقييم السياسات العمومية بما يعزز من نجاعة وفعالية التمويل العمومي في ظل تعزيز رقابة المؤسسة التشريعية على جودة أداء القطاعات الحكومية في إطار استمرار تفعيل مقتضيات القانون التنظيمي للمالية وخاصة البرمجة المتعددة السنوات.
وكانت مجموعة العمل المكلفة بتقييم السياسات العمومية بمجلس النواب قد عقدت مؤخرا اجتماعا لها حيث حظي التعليم الأولي، بتوافق كافة الفرق والمجموعة النيابية بالمجلس، ليكون موضوع التقييم اعتبارا للأهمية الاستراتيجية التي يحظى بها في المنظومة التعليمية بالمغرب، خاصة مع دقة المرحلة التي أضحى فيها موضوع التعليم ومنظومة التربية والتكوين بوجه عام أحد أهم الأوراش الوطنية الملحة التي تتطلب انخراط ومساهمة ممثلي الأمة بمقاربات ومناهج علمية متقدمة.
من جهة أخرى، ستستأثر العديد من الملفات بنقاش كبير بين مكونات المؤسسة التشريعية خلال الدورة البرلمانية المقبلة، في مقدمتها موضوع معاشات البرلمانيين، خاصة مع تباين المواقف وعدم التوصل إلى إجماع بخصوص هذا الملف خلال النقاش الذي شهدته لجنة المالية بمجلس النواب في الدورة التشريعية السابقة.
وفي هذا السياق، يقول الباحث الجامعي عبد الحفيظ إدمينو إن تعاطي المؤسسة التشريعية مع مسألة معاشات البرلمانيين أثار "شكوكا لدى الرأي العام في مساهمة المؤسسة التشريعية في تحسين وتخليق التدبير العمومي"، مشددا على "ضرورة بذل مجهود تواصلي مهم حول القضية والعمل بشكل مكثف لتوضيح خلفية اعتماد هذا الإصلاح ومدى أهميته لكي لايدرج ضمن امتيازات ريعية تمنح للبرلمانيين، وكذا تقديم التجارب البرلمانية المقارنة الناجحة في تدبير هذا الملف".
ومن جانبه، سجل المحلل السياسي محمد بودن أن " ملف معاشات البرلمانيين مطبوع بالكثير من التعقيد، وأن التوجهات بشأنه متقاطعة"، مضيفا أنه "استحضارا لخصوصية الدخول البرلماني لهذه السنة والظروف المحيطة به، يبقى من الصعب إقناع الرأي العام ببعض الحجج المدافعة عن طرح الاستفادة من المعاشات البرلمانية "، معتبرا أنه " يتوجب تجاوز العيوب الهيكلية التي ترافق هذا الملف والقيام بعملية تفكيكية لعوائده"، وأن التحدي يتمثل في تنزيل تصور جديد ومناسب وإعادة ربط أي نص تشريعي بالبنية الاجتماعية والسياسية الراهنة والمصلحة العامة.
وأشار إلى أن " مراجعة نظام المعاشات لا تكفي في ظل إشكالات العجز المطروحة ماديا من جهة، وفي ظل سوء الفهم بين من يرى الصفة البرلمانية وظيفة وبين من يراها مهمة محددة زمنيا من جهة أخرى "، معتبرا أن ثمة دروس مستفادة من النقاش الذي دار في الدورة التشريعية السابقة على مستوى لجنة المالية بمجلس النواب.
وعلى صعيد آخر، سيشكل الدخول البرلماني الجديد مناسبة لتجديد هيكلة مجلسي البرلمان خاصة وأن الدستور في فصله الثاني والستين ينص على أنه ينتخب رئيس مجلس النواب وأعضاء المكتب ورؤساء اللجان الدائمة ومكاتبها في مستهل الفترة النيابية ثم في سنتها الثالثة عند دورة أبريل لما تبقى من الفترة المذكورة، كما ينص الفصل 63 على أنه أيضا ينتخب رئيس مجلس المستشارين وأعضاء المكتب ورؤساء اللجان الدائمة ومكاتبها في مستهل الفترة النيابية ثم عند انتهاء منتصف الولاية التشريعية للمجلس.
وأبرز الباحث إدمينو أن فلسفة تجديد هياكل البرلمان تنطلق من اختيار نخب برلمانية جديدة بهدف إضفاء دينامية مغايرة لعمل المؤسسة التشريعية وإن كان التمثيل النسبي هو أساس التجديد، مشيرا إلى أنه إذا كان مجلس النواب سيحتفظ بنفس التوزيع بالنظر للحفاظ على الأغلبية البرلمانية ذاتها، فإن مجلس المستشارين يعرف من الناحية العددية تفوقا لفرق المعارضة، واصفا هذا الأمر " بالمهم بالنسبة للتجربة البرلمانية المغربية من حيث تطوير الأداء البرلماني وممارسة الضغظ السياسي على الحكومة ".
وأوضح أنه بخصوص مجلس النواب فإن التغيير قد يهم النخب البرلمانية ولن يشمل توزيع المسؤوليات مادامت قاعدة التمثيل النسبي هي التي تتحكم في ذلك، لكنه شدد في هذا السياق على ضرورة تفعيل مقاربة النوع وكذا منح الشباب إمكانية تحمل المسؤوليات داخل هياكل المجلس.
من جانبه، قال المحلل السياسي محمد بودن إن الهيكلة الجديدة لأحد مجلسي البرلمان ستكون مطالبة بالسهر على تطوير العمل البرلماني وبلورة مقاربات جديدة لأساليب العمل والتفاعل مع السقف السياسي للمرحلة والتموقع في قلب الحياة السياسية والعامة بما يتناسب مع حجم البرلمان ووزنه الوطني وفقا لما تم تحديده في الدستور والأنظمة الداخلية فيما يتعلق بالنطاقات التشريعية والرقابية والدبلوماسية.
وهكذا، فإن الدخول البرلماني سيشكل لحظة لمواصلة تعزيز الأدوار التشريعية والرقابية وتعزيز ممارسة تقييم السياسات العمومية، وتفعيل الدبلوماسية البرلمانية، وتقوية العلاقات المؤسساتية مع مختلف الفاعلين.