البيان، الذي أراده النظام العسكري ردا دبلوماسيا صارما، تحوّل إلى مرآة عاكسة تكشف التناقض الفج في خطاب قصر المرادية. فقد وصفت الجزائر الحكومة المالية بأنها «سلطة انقلابية داست على الشرعية الدستورية»، وبأنها «تسير ببلادها نحو كارثة سياسية واقتصادية وأمنية، وتتحمل مسؤولية إفلاس أخلاقي خطير».
غير أن أي متابع للشأن الجزائري يدرك أن هذه الصفات لا تنطبق على باماكو بقدر ما تصف النظام العسكري الجزائري نفسه، الذي صادر الإرادة الشعبية، واحتكر -وما يزال- السلطة لعقود، ودفع بلدا غنيا بالنفط والغاز إلى أزمات خانقة: بطالة مستفحلة، اقتصاد متعثر، انسداد سياسي، وتوتر اجتماعي وأمني يهدد بالانفجار.
هنا يطلّ السؤال الساخر: كيف لنظام يفتقد للشرعية أن يقدم دروسا في احترام القانون والدستور؟ وكيف لمن قمع الحراك الشعبي وأغلق المجال الإعلامي والسياسي أن يتحدث عن الإفلاس الأخلاقي للغير؟ أليست الجزائر نفسها، تحت حكم الجنرالات، غارقة في عزلة إقليمية غير مسبوقة، متهمة في أكثر من ملف بتأجيج الفتن في مالي والنيجر وتشاد والمغرب، وباحتضان حركات انفصالية تهدد استقرار المنطقة برمتها؟
لكن كلفة سياسات العسكر لم تتوقف عند حدود إفلاس البلاد وإفقار العباد، بل تجاوزتها إلى ما هو أفظع: دفع الجزائريين إلى الهروب الجماعي من جحيم الداخل. فمشاهد «قوارب الموت» التي تقل يوميا مئات الشباب نحو الضفة الأخرى لم تعد استثناء، بل تحولت إلى صورة دائمة لواقع مأساوي. شباب يغامرون بأرواحهم في عرض البحر، تاركين وراءهم بلدا غنيا بالموارد الطبيعية، لكنه فقير في الكرامة والحرية والفرص. إنها المفارقة الصارخة: نظام يبدد ثروات الأمة ويجبر أبناءها على الهجرة السرية، بينما يواصل التغني بخطب « المجد الوطني» و«السيادة».
إن الدعوى التي قدمتها السلطات المالية أمام محكمة العدل الدولية ليست مجرد مناورة عابرة كما تحاول الجزائر الإيحاء، بل خطوة نوعية تضع النظام الجزائري في مواجهة مساءلة قانونية وسياسية. فقد قدمت باماكو أدلة على تورط الجزائر في تمويل وتسليح جماعات انفصالية شمال مالي، وعلى رأسها المجموعات الأزوادية التي أشعلت تمردا مسلحا هدد وحدة البلاد.
كما تستند الدعوى إلى خروقات صارخة لميثاق الأمم المتحدة والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، فضلا عن معاهدة «الأخوة والتوافق» بين الجزائر ومالي، التي تحولت – على ما يبدو – إلى مجرد حبر على ورق.
ولعل أكثر ما يفضح ازدواجية الخطاب الجزائري أن النظام الذي يرفع شعار «الأخوة الإفريقية» و«التمسك بالقانون الدولي»، هو ذاته المتهم بانتهاك هذه المبادئ من خلال نهجه لسياسات عدائية ضد الجيران. فإلى جانب اتهامها المتكرر بالتواطؤ مع جماعات مسلحة شمال مالي، واحتضانها لقيادات حركات متمردة، كانت الجزائر متورطة في محاولات إضعاف النيجر عبر دعم مجموعات متمردة على السلطة المركزية، كما أنها لعبت أدوارا مشبوهة في النزاعات الداخلية بتشاد، ناهيك عن مواصلته دعم جبهة البوليساريو الانفصالية التي تستهدف وحدة المغرب الترابية، ما أدى إلى تجميد مشروع الاتحاد المغاربي، وإلى تكريس عزلة الجزائر إقليميا.
وهكذا تتضح سياسة النظام العسكري: تصدير الأزمات إلى الخارج كلما استعصى حلها في الداخل.
إن ما يعيشه النظام الجزائري اليوم هو مأزق مزدوج: أزمة شرعية في الداخل، حيث يغلي الشارع تحت رماد الحراك المقموع والأزمات الاجتماعية، وأزمة مصداقية في الخارج، حيث تتراكم عليه الدعاوى والاتهامات من جيرانه. النتيجة أن خطاب الجزائر الرسمي فقد كل قدرة على الإقناع، لأنه ببساطة خطاب يفتقد الانسجام بين القول والفعل.
وفي الوقت الذي يسعى فيه النظام إلى تلميع صورته كـ«مدافع شرس عن القانون الدولي»، تكشف الوقائع أنه يمارس سياسة ممنهجة لزعزعة الاستقرار في جواره. والمفارقة أن نظاما عسكريا يفتقد للشرعية الداخلية ويتهم غيره بـ«الإفلاس الأخلاقي»، هو نفسه الذي يواجه اليوم اتهامات أمام أعلى هيئة قضائية دولية، في قضية قد تكون بداية مسار محاسبة على سجل طويل من التدخلات.
إنها ورطة دبلوماسية جديدة لنظام يبدو أنه لا يملّ من إطلاق النار على قدميه، كلما حاول التنصل من مسؤوليته أو التستر على أزماته.








