شهدت السواحل الإسبانية، منتصف الأسبوع الماضي، حادثة لافتة تمثلت في وصول سبعة مراهقين جزائريين إلى جزيرة إيبيزا الإسبانية، بعد أن أقدموا على سرقة قارب صيد صغير من ميناء تامنفوست شرق العاصمة الجزائرية، والانطلاق به في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر البحر الأبيض المتوسط.
وقالت وسائل إعلام إسبانية إن القاصرين، الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و17 عاما، جرى رصدهم من قبل فرق الإنقاذ فور اقترابهم من شواطئ الجزيرة، قبل أن يتم اقتيادهم إلى مركز إيواء مخصص للقاصرين غير المصحوبين، حيث خضعوا لفحوص طبية وأكدت السلطات أن حالتهم الصحية مستقرة.
الرحلة التي استغرقت ساعات، لم تمر في صمت؛ إذ عمد المراهقون إلى توثيق مغامرتهم بالفيديو والصور منذ لحظة الإبحار وحتى لحظة الوصول، ونشروا مقاطع على شبكات التواصل الاجتماعي، ظهروا فيها وهم يتبادلون الأهازيج والصرخات فرحا بنجاحهم في عبور البحر.
نزيف متواصل رغم الثروات
أعادت قصة « أطفال إيبيزا » تسليط الضوء على نزيف الهجرة السرية الذي لا يتوقف من الجزائر نحو الضفة الأوروبية، في ظل انسداد الأفق الاقتصادي والاجتماعي.
وتأتي هذه الحادثة لتعيد إلى الواجهة أسئلة مؤرقة عن دوافع آلاف الشباب الجزائريين، بل وحتى القاصرين، إلى ركوب البحر في اتجاه الضفة الأوروبية. ففي بلد يُعد من أبرز مصدّري النفط والغاز في إفريقيا، تبدو المفارقة صارخة: شباب يغامرون بحياتهم هرباً من الفقر والبطالة والتهميش، بينما تجلس ثروات البلاد بين أيدي نظام عسكري يواصل إحكام قبضته على السلطة والثروة.
أرقام صادمة
تكشف تقارير المنظمات الدولية والسلطات الأوروبية بوضوح حجم النزيف البشري. فبحسب بيانات المنتدى المتوسطي للهجرة والتنمية، تجاوز عدد المهاجرين الجزائريين غير النظاميين الذين وصلوا إلى السواحل الإسبانية 13 ألف شخص خلال عام 2023، ما جعل الجزائر تتصدر دول شمال إفريقيا في عدد الوافدين غير النظاميين إلى إسبانيا.
وكشفت منظمة « كامينادو فروانتيراس » غير الحكومية الإسبانية، أن ما لا يقل عن 6,618 مهاجرا لقوا حتفهم أو فقدوا أثناء محاولتهم الوصول إلى إسبانيا عام 2023، بمعدل 18 شخصا في اليوم، وبزيادة 177% مقارنة بأرقام عام 2022، فيما أُحصي 363 امرأة و384 طفلا من بين الضحايا المسجلين.
وتشير معطيات وزارة الداخلية الإسبانية إلى أن أكثر من 15% من هؤلاء المهاجرين هم قاصرون غير مصحوبين بذويهم، وهي نسبة مقلقة تكشف عمق اليأس الذي يدفع حتى الأطفال إلى ركوب البحر.
واقع اجتماعي بلا أفق
اعتبر محمد هناد، أستاذ العلوم السياسية الجزائري، أن ما سلوك هؤلاء الفتية «يعكس حالة اليأس العميقة التي تدفع الشباب إلى تفضيل مواجهة الموت على الاستمرار في واقع اجتماعي وسياسي خانق».
وأوضح من خلال تدوينة على صفحته بمنصة «فيسبوك» أن الوضع «يتسم بغياب حكامة رشيدة، وهيمنة خطابات دينية متشددة، مع تراجع دور الدولة في توفير الأمل والبدائل».وأضاف الأستاذ الحامعي أن ظاهرة الهجرة غير النظامية في الجزائر ليست وليدة اللحظة؛ فقد عرفت تصاعدا منذ سنوات، قبل أن تعرف تراجعا نسبيا خلال فترة الحراك الشعبي الذي بعث الأمل لدى فئات واسعة من المواطنين. غير أن هذا الأمل سرعان ما تبدد مع قمع الحراك، لتستعيد الحرڨة زخمها بشكل غير مسبوق، وتشمل اليوم مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، من شباب ومراهقين إلى نساء وأطر مهنية.ويرى خبراء أن معالجة هذه الظاهرة لا يمكن أن تتم عبر المقاربة الأمنية وحدها، بل تستوجب اعترافا رسميا بخطورتها وإرادة سياسية حقيقية لفتح نقاش عمومي واسع. كما يُقترح تنظيم جلسات وطنية بمشاركة مختلف الفاعلين من أجل بحث حلول عملية توقف هذا النزيف الاجتماعي الذي يهدد بتفكيك المجتمع الجزائري من الداخل.
ويرى خبراء الاجتماع أن تفاقم الظاهرة يرتبط أساسا بانسداد الأفق السياسي والاقتصادي أمام الأجيال الشابة. فالبطالة بين الشباب الجزائري تجاوزت 27% وفق أرقام البنك الدولي لسنة 2024، فيما تزداد الفوارق الاجتماعية اتساعاً، ويُقصى ملايين الشباب من فرص التعليم الجيد والتكوين المهني، ليجدوا أنفسهم في مواجهة مستقبل غامض.
دعاية رسمية وتبريرات جاهزة
وفي الوقت الذي فضل فيه النظام التعامل مع هذه الحادثة بـ« سياسة النعامة»، اختارت وسائل الإعلام الموالية للنظام العسكري -كعادتها- سياسة الهروب إلى الأمام، حيث سارعت إلى اتهام المغرب بـ«استغلال الحادثة للتشويش على انعقاد النسخة الرابعة من معرض التجارة البينية الإفريقية بالجزائر».
هذا الخطاب الدعائي، الذي دأبت عليه السلطة كلما واجهت أزمة داخلية، يكشف عن عجزها عن مواجهة الحقائق الاجتماعية القاسية، ويعكس سعيها لتصدير الأزمات نحو الخارج بدل تحمل مسؤولياتها.
أوروبا بين الضغوط الإنسانية والتحديات الأمنية
في الضفة الأخرى، تجد السلطات الإسبانية والإيطالية نفسها أمام تحديات متزايدة، مع استمرار تدفق المهاجرين غير النظاميين القادمين من الجزائر. فالقاصرون الذين يصلون إلى الشواطئ الإسبانية يُحالون تلقائياً إلى مراكز إيواء ورعاية اجتماعية، حيث يُعاملون كضحايا يستوجب القانون حمايتهم. غير أن تضخم الأعداد يضع ضغطاً كبيراً على هذه المراكز، ويثير نقاشاً سياسياً حاداً داخل إسبانيا حول سياسات الاستقبال والهجرة.
جرس إنذار جديد
حادثة القاصرين الذين وصلوا إلى إيبيزا لا تمثل مجرد قصة إنسانية مؤثرة، بل هي جرس إنذار جديد على عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الشباب الجزائري. فطالما استمر النظام في إقصاء شعبه من حقه في التنمية والعدالة، ستظل قوارب « الحرقة » تنطلق من الشواطئ الجزائرية، حاملة معها أحلاما محطمة وأرواحا تبحث عن عيش كريم في ضفة أخرى.




