في فرنسا وأميركا هناك تقليدٌ ثقافي كبير تعمل فيه دور النشر بمعية كتاب وأدباء ومؤسسات ثقافية على اصدار روايات ذات مسحة صيفية وعياً منها بقيمة هذه المرحلة من السنة التي تتوقّف فيها الدراسة ومشاغل التلاميذ وواجبات الدرس والتصحيح وفروض المنزل ليصبح القارئ أكثر تحرراً من ربقة المقررات والدروس. إنّ الوعي بقيمة القراءة في المجتمعات الغربية يبدو بارزاً ويحتلّ قيمة كبيرة في أجندات المؤسسات الثقافية التي تتعامل مع القراءة باعتبارها ضرورة وجودية وليس بذخاً مجتمعياً.
فلا غرابة أنْ يرتفع منسوب القراءة في هذه المجتمعات المتقدّمة وتُساهم بطريقة نوعية وتلقائية في تنمية أفراد هذه المجتمعات وتطلّعها إلى الأمام. فالإنسان الغربي متعوّد على القراءة لأنه تربى في وسط مجتمعي يعشق القراءة ويؤمن بالثقافة ودورها في التنمية طيلة فصول السنة. فهو يؤمن أنّ الثقافة عبارة عن نمط عيش يوميّ يُحرّر المرء من كافة الضغوط النفسية والرواسب الاجتماعية التي قد تصيبه في سيرورة اليومي. فتصبح القراءة سفراً متخيلاً صوب مناطق يباب لا مفكّر فيها، سيما حين يتعلّق الأمر بالأدب وقيمته النوعية في تربية الخيال على الحلم والإبداع والابتكار.
في المغرب لم نُحقّق شيئاً في هذا المضمار ولا أعتقد أنّنا سنُحقّق شيئاً في المستقبل القريب، مادام المجتمع لا يقرأ ولا يُحبّ الحلم ويعتبر القراءة فعلاً مرتبطاً بـ « التحصيل » العلمي لا أكثر. كما أنّ الجهات المسؤولة عن الثقافة رغم ما تقوم به من مجهود محمود في تطوير فعل القراءة عن طريق برامج وغيرها، لا نعثر على أيّ أثر داخل المجتمع. إنّ القراءة ليست مرتبطة بأجندةٍ سياسية مهما حاول رجل السياسة أنْ يجعل من القراءة والثقافة عموماً أفقاً مجتمعياً، فهي تبقى فعلاً ذاتياً يُحرّك الناس من الداخل ويجعلهم يرنون إلى معانقة الكتب والاحتفاء بالإصدارات الجديدة والإيمان بها وبما تخلقه من حياة موازية للحياة الحقيقية التي نعيشها بشكل فيزيقي تجاه الواقع.
والحقيقة أنّ الأمر لا يرتبط فقط بالقراءة، بل حتّى بالأنشطة الثقافية والأفلام والمعارض، فكلّ شيء يتوقّف في الصيف، مُفسحاً المجال أمام مختلف أشكال الترفيه والاستهلاك. إذْ يتساءل المرء كيف يتوقّف عقل المثقف عن التفكير في المفاهيم والقضايا والإشكالات ومشاركتها مع الناس. يدخل المثقف خلال الصيف في صمتٍ رهيب، مُنتظراً وصول الدخول المدرسي حتّى يُباشر عمله في التدريس. والحال أنّ الثقافة بمفهومها النوعي تنفصل بشكل كلّي عن الدراسة، لأنّ الثقافة عبارة عن نمط تفكير وأسلوب عيش يجعل المرء يعيش الثقافة بجسده وليس بتفكيره فقط. ففي البدان المذكورة يتلمّس المرء الثقافة في الحياة اليومية داخل المقاهي والساحات العامّة والقطارات، في وقتٍ لا تتوفّر فيه الفضاءات العمومية على أبسط مقوّمات العيش، فبالأحرى التفكير في وضع أسس لجماليات مبتكرة حول طوبوغرافية المدينة وذاكرتها.
التعامل مع الصيف على أساس أنه مرادف للراحة والاستجمام نابع من تكريس نوع من « الثقافة الخبزية » التي تتعامل مع الثقافة على أساس أنّها مجرّد بذخ.