إنها أغنية راب نابعة من الأعماق، تلامس الجميع لدرجة تجعل من المستحيل عدم التفاعل معها، حيث تعبر عن غضب مكتوم وعميق مكبوت طويلا، غضب الشعب الجزائري وشباب محروم من أي أمل. بعيدا عن الصورة الوهمية للجزائر حيث يسود كل شيء بسلام، وهي الصورة التي يروج لها النظام الحاكم، وبعيدا عن التلاعب الإعلامي بالجماهير الذي تمارسه السلطة العسكرية من خلال وسائل الإعلام التابعة لها، تأتي أغنية وكليب لطفي دوبل كانون لتمزيق حجاب الأكاذيب والدعاية.
يأس الشباب المستعد لمواجهة الموت للهرب من البلد
في مقدمة الأغنية، تظهر مشاهد لـ« حرّاگا » جزائريين يفرون من البلاد على متن قوارب صغيرة، مخاطبين النظام. وتظهر الصور التي صورها هؤلاء المهاجرون السريون خلال رحلتهم على شاشة تلفاز موضوعة على أرضية مخزن مهجور، وخلفها يقف مغني الراب بصمت، ليترك المجال لتلك الأصوات الحزينة للتعبير. يصرخون بحبهم لوطنهم، والحنين الذي يغمرهم منذ مغادرتهم لأرضهم، وغضبهم لاضطرارهم إلى الرحيل لعدم وجود فرص عمل، وينادون تبون للتعبير عن مأساة من يموتون في البحر. يقوم لطفي دوبل كانون بعد ذلك بقلب الشاشة بركلة ويبدأ بتوجيه ضرباته الكلامية بقوة لأكثر من أربع دقائق.
بأسلوب جريء، يضع لطفي دوبل كانون مشاعر الضيق العميق للشباب في ضوء قاتم بمخزن متداعي – إشارة إلى حال وطنه – ويردد كلمات تصف الشباب الذين يموتون في البحر، وآخرين ممن يظلون أحياء ولكنهم يموتون أيضا بفعل المخدرات، «البيضا مون آمور».
في أغنية راب تقنية، بكلمات حادة وعميقة، يفكك لطفي دوبل كانون ظاهرة الهجرة السرية الجماعية التي بلغت حدا تحول معه حي باربيس في فرنسا إلى «حي عنابة»، وينتقد مسؤولية تبون في الأزمة الجزائرية الفرنسية، وازدياد اليمين المتطرف في فرنسا، في ظل «غزو الجزائريين لشوارع باريس»، حسبما يقول.
قمع الأصوات المعارضة والتلاعب الإعلامي
يتحول الأسلوب ليصبح أكثر سياسية حين يتطرق إلى العنف في الشوارع والقمع البوليسي في بلد غني بالموارد البترولية. عبر صور لمظاهرات طلابية، ينتقد قانون الصمت المفروض من السلطات، وهيمنة الصمت حتى داخل المساجد حيث لم يعد الأئمة يجرؤون على الخطابة، حسب قوله. ويهاجم الصحافة الجزائرية، ووسائل الإعلام الدعائية التي لا تتحدث إلا عن الأكاذيب، وتغض الطرف عن القمع والاعتقالات، بينما تظهر صور الصحفيين المسجونين لقولهم الحقيقة، مثلما هو الحال مع «معارضي النظام» الذين يظهرون على الشاشة. «الحقيقة لم تعد تُقال»، يغني وهو يحاكي تهديد السلاح الموجه ضد من يجرؤ على قولها.
ثم يبرز قضية الأسعار المرتفعة، ونقص المواد الغذائية، وفراغ السلال، وهي مواضيع لا يجب مناقشتها، تجنبًا للاتهام بالخيانة، كما يشير لطفي إلى الاعتراض الذي يعتبره النظام خيانة عظمى ويتهم دائمًا «يدًا أجنبية» بأنها وراءه.
لطفي دوبل كانون لا يخطئ حين يتحدث باسم الأغلبية الصامتة؛ يؤكد بقوة أن أحدا لا يُخدع بنغمة العدو الخارجي التي يروج لها النظام، ويقول إن الشعب إذا انتفض، فلن يكون ذلك بسبب تأثيرات خارجية. «الإمارات لن تحركني»، «محمد السادس لن يحركني». كلمات عاد إليها لطفي في فيديو يوضح فيه أن المغرب يُحمَّل المسؤولية عن كل مشكلات الجزائر من قبل النظام والإعلام، حتى الاحتجاجات الطلابية في كليات الطب، التي قيل إنها من تدبير «المخزن» أو الإمارات، وهما العدوان اللذان حددتهما السلطة العسكرية.
ثم يهتف بحب الوطن، مذكرا تبون بأن الجزائر موحدة («نحن عرب وأمازيغ») وقوية بدونه. «حاربنا العصابة التي كنت أحد وزرائها»، يخاطب الرئيس متحديًا.
المقطع الثالث.. كتيب سياسي
قد تنتهي الأغنية هنا، لكن لطفي يختار إضافة مقطع ثالث «سياسي بامتياز»، على حد قوله. يتناول فيه الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مشيرا إلى مقاطعة الشعب للانتخابات ونتائجها الكاذبة، ويعيد طرح سؤالا ساخرا: «هل 5.63 مليون ناخب من أصل 24 مليون مسجل تساوي 48%؟».
ويتابع متسائلا «من المستفيد؟»، لتسليط الضوء على الفساد الذي يسود في الجزائر، مستعرضا تاريخ السياسة المبنية على المال، منذ ظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ وحتى وصول علي بن فليس (رئيس الحكومة الجزائرية بين 2000 و2003)، ويعلن «دفن» جبهة القوى الاشتراكية، أقدم حزب معارض في الجزائر، الذي تأسس عام 1963 على يد حسين آيت أحمد، والذي يناقش الآن مع السلطة، ما يعرضه للكثير من الانتقادات.
ثم يأتي دور الجيش، «المحبوب» من الجزائريين كما يقول، منتقدا في الوقت نفسه فساد بعض ضباط الجيش، مذكرا بأن مشكلات الجزائر، إلى جانب المخدرات، تشمل أيضا دبلوماسيتها، مشيرا إلى الأزمات مع مالي، وليبيا، وقوات فاغنر التي توجد على الحدود.
كيف وصلت الجزائر، «هذه العروس الجميلة»، إلى هذه الحال؟ يسأل لطفي في أغنيته، معبرا عن عدم فهم الشعب لوضعهم، إذ باتوا أسرى في بلد «تحول إلى كوزا نوسترا، أسوأ من الياكوزا».