على مُستوى الكمّ، تُحقّق الثقافة المغربية، نموّاً مُتزايداً من حيث عدد المؤلّفات الصادرة سنوياً، لكنْ أحياناً بدون أيّ قيمةٍ معرفية جديدة، تجعل القُراء والطلبة والباحثين يكتشفون شيئاً جديداً حول نُظم إنتاج المعرفة المعاصرة. بل يُخيّل إليكَ وأنت تقرأ بعض عناوين الكُتب، أنّك تنتمي إلى ثقافة ما يزال يعتقد أعيانها أنّ الرواية ديوان العرب اليوم، وأنّ لا شيء يعلو على هذا الجنس الأدبي الذي غدا بمثابة موضة يرنو إليها كلّ الكُتّاب والشعراء والنقّاد، بعدما تتبعن لسنوات كتاباتهم النقدية أو الشعريّة، غير أنّهم أصبحوا اليوم « روائيين » إلاّ بسبب الحظوة المادية التي أصبحت تطبع هذا الجنس دون غيره من الأجناس الأدبيّة الأخرى.
وقد يستغرب المرء كيف ساهم هذا الانتقال غير الصحّي (لأنّه غير مُبرّر معرفياً) في تكريس ثقافة الرواية، بعدما أصبحت المختبرات الجامعية والندوات العلمية والموائد المستديرة تتزايد يوماً بعد يوم. تُشعرك هذه المُمارسات الثقافيّة وكأنّك في حفلات وأعراس أكثر من كونها محاكم لتكثيف القول وضبط المفاهيم والنظريات والسياقات.
ولا غرابة أنْ تُطالعك داخل الجامعة كتابات وفيرة حول روايات مغربية صادرة لدرجة تجعلك تعتقد أنّ الرواية سيّة الأجناس الأدبيّة، وما يدور حولها مُجرّد خواءٍ فائض. فالنقد الذي يُكتب داخل الجامعة عامّ في مُنطلقاته وعادة ما تحتلّ فيه النظرية موقع الصدارة، أيْ أنّه يغدو بطريقة ما استظهار للمعارف العامّة الموجودة في الكُتب، بدون أيّ مجهود على مُستوى التحليل والتأمّل والتفكير. وغالباً ما يتمّ تلخيص النقد الأدبي في الأدبيات الفرنسيّة، دون التطرّق لباقي المدارس الغربية التي قدّمت وعياً جديداً في النّظر إلى العمل الأدبي وملامحه وخصائصه.
ينظر الناشر إلى الرواية وكأنّها صندوق بطاطا وبصل، لا يهُمّه المحتوى أو على الأقل النفس الأدبي الذي به كُتبت الرواية، فهو سينشر هذا الـ « شيء » بما أنّه رواية وسيشتريها الناس. لا يعنيه الشهر وباقي المعارف الأخرى من فلسفة وأنثروبولوجيا وعلم اجتماع وتاريخ، لكونه يُلخّص عملية النشر في الرواية ولا ينشر شيئاً غيرها. من يرى الإقبال الهستيري للناس على قراءة الرواية، سيعتقد أنّ المجتمع المغربي يُؤمن بالأدب ودوره في حياتهم، باعتباره كتابة تُجمّل واقعهم، لكنْ الحقيقة تعكس غير ذلك. فالروايات الصادر في السنة، قد لا تعثر إلاّ نصوص قليلة جداً تستحقّ القراءة وكتابة مقالات ميتا نقدية عنها، فالروايات الجديدة عبارة عن فاست فود يتم إعدادها في آلاتٍ هجينة وفي فتراتٍ قصيرة جداً استعداداً لعمل روائيّ جديد.
إنّها أشبه بكتابة الفايسبوك التي لا طعم ولا رائحة لها، لأنّها كتابة لا تترك أثراً، بقدر ما تُقرأ وتُنسى كأنّها لم تكُن يوماً بتعبير الشاعر محمود درويش. ليست معضلة الرواية إلاّ نموذج مُصغّر عن العطب الذي أصاب الثقافة العربيّة في السنوات الأخيرة، لدرجة تُصبح فيها هذه الثقافة تعيش على ماضي أمجادها داخل مجالات مختلفة من فنّ القول الأدبي ومُتخيّله.