كل هذا في وقتٍ، ظلت فيه الممارسة التشكيلية تتأرجح بين الأصالة والمعاصرة، الانفتاح والانغلاق وغيرها من الثنائيات الفكرية، التي شغلت أعمال الفنانين المغاربة في ذلك الوقت، فكان الانفتاح على بعض المواد المحلية سبيلا للتحرر من إسار الفن الغربي وسلطته في نظر البعض، وذلك بأسلوب فني تتمازج خصائصه بين الرسام والحرفي، كما هو الشأن عند فريد بلكاهية، الذي عمل على استلهام مفهوم التراث بكل أشكاله وألوانه من حناء وأوشام وأشكال جنسية مقتبسة من المتخيل المغربي، عمل على تطويعها بمواد ذات بعد حرفي صرف مثل النحاس والجلد والحناء والخشب والزعفران وغيرها.
في مقابل تيار الحروفية الذي لجأ إليه جملة من الفنانين المغاربة في ذلك الوقت للتعبير بقوة عن الهوية القومية العربية الإسلامية، مستعرضين بعناية فائقة من لوحة إلى أخرى، دلالاته الروحية والجمالية، بما تتضمنه من أسئلة حارقة حول مأزق « الهوية » العربية والخصوصيات المحلية ككيان مستقل عن الآخر.
وهو الأمر الذي لم يستسغه فؤاد بلامين خريج المدرسة الباريسية، بحيث شكل التجريد لديه حقيقة كاملة لاستكشاف الذات والذاكرة بكل ما تختزنه من إشارات ورموز حضارية حول مدينة ظل هسيسها يسري في جسده، والتي تقوده دوما إلى التعبير عن هذا المخزون الرمزي الذي اكتسبه منذ صباه بمدينة فاس. وحتى تراث المدينة في أعمال بلامين، ليس ما تركه لنا الأجداد من ذخائر وتماثيل وصوامع وقباب وأضرحة، فهو يتملّكه كعملية محوٍ مسبق من كينونته وخزانه، ليعيد عملية التمثيل والبناء بالطريقة التي ينظر بها هو كفنان إلى التاريخ العربي وحضارته وجمالياته، بكيفية تجعل علاقته مع التراث، يتجاوز فيها مفهوم الهوية الضيق، معانقا فيها رحابة الكوني وهاجس المغايرة والاختلاف اللذين طبعا أعماله على مدار 50 سنة من الاشتغال.
على مدار سنوات طويلة، عمل فؤاد بلامين على مسرحة هواجسه الداخلية بكل انكساراتها وأفراحها من خلال لونين فقط في أغلب الحالات هما الأسود والأبيض. 50 سنة داخل الساحة التشكيلية العالمية، حفر فيها اسمه عميقا في جسد التشكيل العربي، منذ معرضه الأول بالرباط. جاءت أعمال المعرض لتؤكد مسار رجل استطاع أن يحفر اسمه بأسنانه داخل كارطوغرافية التشكيل المغربي في وقت كان من المستحيل على الفنان، أن يصنع تجربته الفنية ويدافع عنها بقوة أمام أعمال الغرباوي والشرقاوي مثلا، لكن بلامين أتبث العكس للساحة المغربية بمواضيع جريئة تتأرجح بين اللوحة وتجاوزها إلى الفضاء المفتوح، معانقا كل الإبدالات والتحولات المفاهيمية التي طالت الفن المعاصر في العالم، بما يجعله اليوم مجددا ورائدا من رواد الفن العربي المعاصر. يقول المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي حول الفنان « أعمال فؤاد بلامين أكثر تركيزا على المادة ولعبة الذاكرة التي تفرزها في حياة الفنان. وبعد أن كانت ذات منحى تصوري وإقلالي، بدأت تلح على التوافق الذي يربط بين الحركة وتحولات المادة وبين خلق للأشكال يمكنه أن ينبثق من التوتر الفضائي ومأساته. أنه مأساة اللون الذي تنتثر عليه عناصر الرمادي والأسمر والأسود، عبر التراكم والجمع بين الفرشات اللونية، في ضرب من الجيولوجيا ذات الطابع العمودي ».
تتوزع أعمال بعض معارضه عبر مراحل متعددة من المسار الفني المتفرد لفؤاد بلامين، فكل عمل يختلف عن الآخر من حيث اشتغالاته ومنطلقاته العملية والتخييلية، لكنها تتمازج داخل وحدة مركبة تصنع خطاب العمل لدى بلامين، فالمادة تشكل لبنة أولى في عملية الحفر لدى الفنان تتوزعها بقع ضوء على اللوحة وبتدرج الرمادي وألوان أخرى تحتفي بمنظر اللوحة وتصنع خطابها الجمالي، لكن سرعان ما تختفي الألوان داخل جسد اللوحة لتستفيد منها بشكل ضمني عبر مراحل العمل اللاحقة، هكذا تغدو عملية بناء العمل لدى بلامين أشبه بعملية استكشاف روحي لكينونة الإنسان وآلامه في علاقته بذاكرته التي اشتغل عليها انطلاقا من خدشات الجدار، لكن ليس بطريقة ميكانيكية تصور الجدار والقباب والزوايا، ولكن بطريقة لامرئية تكشف عن ما تتركه الطبيعة في الجدار.
وهي أشبه ما تتركه الحياة في ذواتنا من نذوب. هكذا تغدو مدينة فاس مسقط الرأس والقلب لدى بلامين، فضاءا لتأجيج الذاكرة، كما عاشها بلامين بعوالمها بين أزقتها ودروبها وأناسها وأضواءها الخافتة، التي ظلت مصدر خوف له وهو طفل، ما يفسر حرص بلامين طيلة 50 سنة من الاشتغال على النور داخل أعماله، وذلك بطريقة يغدو معها العمل حوارا مع الروح وعذاباتها وأيضا مع الذاكرة، وهي تروم إلى تأجيج مخيلة الفنان في صباه، مستعيدا إياها بطريقة نوسطالجية وبأبعاد روحية وفلسفية وجمالية يصعب على المرء إدراك ماهيتها.