يتعامل المثقف مع الثقافة بوصفها « بريستيج » وليس مشروعاً حداثياً عضوياً يقود إلى تحديث المجتمع. إذْ بمجرّد تنتهي الدراسة العامّة يتوقّف عن القراءة والدراسة وإنتاج الأفكار. وكأنّ الثقافة لا علاقة لها بالصيف. ففي الوقت الذي ينبغي أنْ تتأجّج فيه بقوّة الممارسات الثقافية في فصل الصيف، نظراً لوجود وقتٍ كافٍ يستطيع المرء من خلاله قراءة كُتب ومُشاهدة أفلام وحضور مسرحيات، فإنّها تغيب خلال هذا الفصل، وحتّى إنْ حضرت دائماً ما يغلب عليها الترفيه والاستهلاك اللذين يُحوّلانها إلى بضاعة خاضعة لمنطق العرض والطلب.
لم تكُن الثقافة يوماُ في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، مشروعاً مجتمعياً يدخل في إطار التنشئة الاجتماعية التي تُساهم لا محالة في تهذيب الذوق العام وتكريس قيم الأصالة والاختلاف والحوار. بقدر ما ظلّ التعامل معها براغماتياً وخاضعاً إلى منطق انتقائي يفضي إلى مصلحة الفرد. أيْ أنّ المؤسّسات لم تأخذ على عاتقها تطوير النظر إلى مفهوم الثقافة نفسه وتغيير كلّ تلك الأفكار البالية التي تحكّمت فيه وجعلته مجرّد اكسيسوار، في وقتٍ أصبحت فيه الثقافة في العالم بمثابة صناعة قائمة الذات وذات حضور مؤثّر وفعّال في خصوصيات المجتمع المعاصر.
مشكلة الثقافة المغربيّة أنّها تغتال من لدن أصحابها، لاعتقادهم الأعمى أنّها مجرّد بذخ فكري أو بنية فوقية بالتعبير الماركسي للكلمة. مع أنّها تتجاوز اليوم مختلف التعريفات القديمة، لكونها تُساهم في تنشيط الحياة اليومية وتجميلها، لدرجة يُصبح للعيش مُتعة خاصّة، سيما حين يتعلّق الأمر بالجانب الحضاري للثقافة داخل الفضاءات العمومية. لكنْ في الثقافة الغربية لا يتوقّف الإنتاج الثقافي في فصل الصيف، بل إنّ المؤسّسات تستغلّ هذا الفصل بالذات للعمل على تأجيجها. وذلك من خلال إقامة العديد من المهرجانات الشعرية داخل مدنٍ فرنسية يحتفي فيها الشعراء بلذة الشعر بعذوبة البحر والطبيعة. بحيث تتكاثر المهرجانات خلال فصل الصيف حتّى أصبحت بمثابة تراث أدبي يستحيل عدم تنظيمه.
إنّ النّظر إلى الثقافة بالمفهوم الموسمي، يجعلنا نستكلهها، دون أنْ نحدس بجمالها وقيمتها وضرورة تحويلها إلى رأسمال رمزي قادرٍ على فتح منافذ أخرى. إنّ بعض السلوكات اللاثقافية ترجعنا إلى الخلف، أكثر من كونها تدفعنا إلى الأمام. لن ننكر أهمية التحوّلات التي عرفتها الثقافة المغربية منذ السبعينيات إلى اليوم، لكنّنا لم ننجح في استثمار هذا الرأسمال الثقافي وتحويله إلى مشروعٍ تحديثي في خدمة الناس. إذْ بواسطة الثقافة يُمكن حل العديد من المشاكل وتربية الناس عل القراءة والعيش وتهذيب الذوق. إنّها بطريقة ما شكلٌ من أشكال تحرير المجتمع وقوّة خفيّة قادرة على خلق مناخات جديدة للناس.