أشرف الحساني يكتب: التفكير في الهامش

في 08/12/2024 على الساعة 07:30

مقال رأييعتبر مفهوم الهامش من الموضوعات الفكرية القوية التي لم تأخذ حقّها من ناحية التفكير والتأمّل. ذلك أنّ الدراسات التي اهتمّت بالهامش لم تتناوله كموضوع فكري مُنفلت، بقدر ما تعاملت معه على أساس أنّه بنية اجتماعية يصطدم معها الباحث أو المفكّر لحظة تحليل بعض من القضايا والإشكالات ذات الصلة بالمجتمع.

إنّ التجارب الفكريّة التي راهنت على المركز كمُعطى واقعي على حساب الهامش، لم تنتج إلاّ تاريخاً جديداً للمؤسسات، وذلك على أساس أنّ هذا المفهوم، لا يُتيح لها إلاّ إمكانية استعادة أو إنتاج سرديات السُلطة المؤسسة والمُتمركزة حصراً حول مفهوم المركز. لقد اهتمّ العديد من المؤرخين المَغاربة بكتابة تاريخٍ للمركز، انطلاقاً من معالم الدول وسيرة السلاطين وأنظمة الحكم والعلاقات الدبلوماسية بين البلدان، وذلك خلال فترات متنوّعة تبدأ من التاريخ الوسيط، مروراً بالحديث ووصولاً إلى المعاصر. ورغم المجهود المبذول على مستوى التفكير والكتابة، فإنّ المُنطلقات المعرفية التي تُؤسّس شرعية فعل الكتابة تظلّ تقليدية وذلك لكونها لا تخرج عن أنماط معيّنة من الوثائق التاريخيّة التي سبق الاستناد عليها.

وهي في مجملها وثائق مخزنية لا تُقدّم تاريخاً شمولياً عن تاريخ المغرب لكونها تتعامل مع هذا التاريخ من وجهة نظر المركز. ويُعتبر التاريخ السياسي ونظيره الدبلوماسي بمثابة العنصر الهام بالنسبة لمؤرخو المركز وذلك لأنّ هذا التاريخ لا يُتيح لهم إلاّ تفسير الوقائع والأحداث التي يحبل بها المركز، في حين تحجب على المؤرّخ رؤية بعض ظواهر الهامش التي تغدو بالنسبة للفنان مادة للتفكير والتخييل على أرض الواقع.

والحقيقة أنّ الاهتمام بالنسبة للمؤرّخ بمفهوم الهامش، كما هو الحال لدى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في مغامراته المُدهشة حول تاريخ الجنون والمؤسسة السجنية والجنسانية، يجعل الكتابة التاريخيّة، تعمل بشكل مُضمر على تجديد نفسها والبحث لها عن وثائق جديدة تُسعفها على كتابة تاريخ جديد لبعض القضايا والإشكالات التي تطال هامش المجتمع خلال حقبة تاريخيّة معيّنة.

لقد نجح الأنثروبولوجي الفرنسي دافيد لوبروتون في حفرياته المعرفية حول تفكيك بعض القضايا الهامشية في المجتمعات المعاصرة مثل: الضحك والجسد والصمت والألم والحواس من تقديم سردياتٍ أنثروبولوجية مختلفة عن تلك التي قدّمتها بعض متون الدراسات الأنثروبولوجية الكلاسيكية التي وإنْ كانت تنطلق من الهامش كمجال خصب للتفكير، فإنّها سرعان ما تتماهى مع المركز، محاولة خلق بعض مع التمازج لحظة المعاينة والتفكير والكتابة. على هذا الأساس، يُعدّ لوبروتون رائداً لأنثروبولوجيا الهامش، فهو لم يكتفي بدراسة القضايا المعروفة داخل المجتمع كغيره من المفكّرين الفرنسيين، بقدر ما اتّخذ من منحى آخر يجعل من الهامش أفقاً للتفكير. من هنا نستوعب أهمية تخليه في نهاية السبعينيات على دراسة علم النفس، خاصّة علم النفس السريري.

لم ينتبه المؤرخون والباحثون والأكاديميون المغاربة إلى الأبعاد الإبستمولوجية التي تبنتها دعوة عبد الله العروي حول رؤيته للأنثروبولوجيا والتي طالما جعلها صاحب مفهوم « السنة والإصلاح » عنواناً أثيراً لمُجمل كتاباته الفكريّة. وهي نظرةٌ معرفية تُعلي من شأن المركز وتجعله مُختبراً لتكثيف القول ونسج سرديات تاريخية تُحابي السُلطة وتسعى جاهدة إلى تبرير أخطائها وتوثيق ذاكرتها ووجودها في تاريخ المغرب الحديث منه والمعاصر.

بيد أنّ هذا الأمر، بقدر ما يمثل موقفاً خاصاً بعبد الله العروي، فإنّه لعب دوراً سلبياً بالنسبة لمفهوم الكتابة التاريخيّة وجعلها كتابة تتواشج مع تاريخ السُلطة وتعطي قيمة لمفهوم المركز على حساب مفهوم الهامش، مع الاعتماد على نفس طبيعة الوثائق التاريخية، كما تبنتها المدرسة المنهجية أو الوضعية مع كل من شارل لانغوا وشارل سينيوبوس، قبل أنْ تبرز مدرسة الحوليات مع كل من لوسيان فيبر ومارك بلوك، حيث ستسعى هذه المدرسة الفكريّة الرائدة على تفكيك أواصر الكتابة التاريخيّة وتجديد خطابها بالنزوع صوب كتابة تاريخ جديد ينطلق من الهامش ويحاول عبر هذا المفهوم أنْ يستكشف عالماً آخر يتوارى خلف الماضي، لكنّه ما يزال يحكم بديمومته على الحاضر ويتطلّع صوب المُستقبل.

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 08/12/2024 على الساعة 07:30