من يسمع نحيب المثقف وحرقته حول معرض الكتاب، يعتقد أنّنا وصلنا إلى مُستوى من الحداثة الثقافيّة، يجعلنا نُفكّر بهذه الطريقة الغرامشية وندخل دوماً في جدل له علاقة بالأساس بالثقافة الوطنية، مع أنّ الحقيقة تُظهر العكس. فقد تخلّى المثقف عن كافة المبادئ التي كانت إلى وقتٍ قريبٍ هي رأسماله الرمزي، الذي به يحتمي من قهر المرحلة وويلاتها. لم يعُد للمثقف شيئاً يُقدّمه إلى المجتمع، لكون خطابه أصبح ترفيهياً أكثر من كونه مُفكّراً فيه. فهؤلاء الذين يُريدون أنْ يبقى المعرض بالدارالبيضاء، لا يُقدّمون أيّ ذريعة تقف وراء ذلك، فقد لأنّهم تعودوا أنْ يكون المعرض بالدارالبيضاء.
مع أنّ الجميع يعرف النفق المُغلق الذي وصلت إليه المدينة، فهي لم تعُد تقوى على احتواء نفسها، والعمل على إقامة تظاهرات ثقافيّة وفنّية، من شأنها أنْ تُعطي نفساً جديداً للمدينة وتُخرجها من نمطها الترفيهي وطابعها التجاري. فالثقافات والآداب والفنون، بمُختلف أنواعها من سينما وجداريات ولوحات ورقص، تُعطي للمدن بهائها وتجعلها حاضرة في وجدان كلّ ما يزورها. فما يبقى في قلب السائح ليست المحلاّت التجارية ولا المقاهي الاستهلاكية، وإنّما جماليّات المعمار ودور السينما والمعارض الفنّية والمقاهي التاريخيّة والحدائق الجميلة وسحر الناس وبهجتهم. فهذه المُكوّنات ذات العلاقة بالفضاء العمومي، هي ما ينبغي تكريسه بالدارالبيضاء والحرص عليه.
وبالتالي، فبدل الدخول في معترك أسباب نقل معرض الكتاب إلى الرباط، ينبغي على المجالس البلدية العمل على تأهيل المدينة وسكّانها وتعمير الفضاءات وتزويدها بمُختلف المظاهر الفنّية التي من شأنها أنْ تُحافظ على رونق المدينة وتاريخها وذاكرتها.
يستغرب المرء مدى بكاء ونحيب المجالس من تحويل معرض الكتاب، وكأنّ المجالس تهُمّها الثقافة والحداثة والتحديث. فالمثقفون عموماً يعملون لوحدهم على تحديث المجتمع، في حين نجد المجالس والبلديات وغيرها من المؤسّسات، لا تُقدّم أيّ دعمٍ للأنشطة الثقافيّة والفنّية، إلاّ إذا كانت داخل أراضيها أو لها علاقات خاصّة بالجهات المنظمة. فالمجالس البلدية والجماعية، لا تُقدّم إلاّ النزر القليل للجمعيات من أجل إنجاز بعض الأنشطة الثقافيّة. إذْ يستحيل العثور على مجلس بلدي قدّم دعاً لكاتب أو جمعية من أجل إنجاز كتاب عن تاريخ منطقة ما أو إمكانية المُساهمة في تصوير أفلام وثائقية عن أحياء شهيرة بالدارالبيضاء، بما يضمن لهذه الفضاءات الشعبية ديمومتها واستمرارها في حياة الناس وذاكرتهم.
لذلك، فقبل أنْ نُفكّر في الدفاع عن معرض الكتاب، ينبغي أوّلاً تأهيل المَدينة لتُصبح مدينة حقيقية للثقافة والفنّ وأنْ يتمّ فيها التخلّي تدريجياً عن كونها عاصمة اقتصادية، بعدما يتم وضع المسارات الثقافية والفنية داخل عجلة الاقتصاد المحلي. بهذه الطريقة يُمكن للمدينة أنْ تغدو مؤهّلة لاحتضان معارض وملتقيات دولية وغيرها. فالمواطن البسيط لا يستطيع التنقّل بسهولة إلى مقرّ عمله والخروج للاستمتاع رفقة عائلته بالحدائق والمقاهي والملاعب والمسابح والمساحات الخضراء، لأنّ كلّ شيءٍ مُعطّل، وكلّ شيءٍ استنزف وجوده ويحتاج إلى إعادة تجديد ودبّ حياةٍ جديدة في شرايينه.