كما أنّ الترويج لبعض العلوم والمعارف دون غيرها داخل جامعات ومراكز البحث العلمي والندوات، كرّس ثقافة الاجترار التي تكتفي بالسطحي والجاهز، بدل التفكير في قضايا وإشكالات ذات صلة بالزمن المعاصر. إن المتتبع للمؤلّفات الجديدة التي تصدر هنا وهناك، يكاد لا يعثر داخل ثناياها على كتاب جامع وخاصّ حول علاقة السينما بالتاريخ من وجهة نظرٍ تاريخيّة وفكريّة تقرأ تاريخ هذه العلاقة وتتأمّل مساراتها الفنية وتواشجاتها الجمالية على مُستوى التفكير والمُمارسة. بل إن ما يوجد في هذا الموضوع مجرّد مقالات صحفية تعتمد الكتابة النقدية السينيفيلية، بدل الكتابة البحثية المعرفية التي تضع عملية تشريح العلاقة وفق قالب معرفي يطرح السؤال حول جوهر هذه العلاقة والطريقة التي ينبغي أنْ يستفيد منها السينمائي من المُؤرّخ والعكس أيضاً.
وذلك على شكل مونوغرافيات فنّية تزيد السينما والتاريخ توهّجاً ووعياً في ذهنية المُتلقّي. والحقيقة أنّ السبب وراء هذا الغياب المهول لمؤلّفات السينما في علاقتها بالتاريخ والذاكرة، راجع لغياب الفكر البصري الذي يتعامل مع الصورة، باعتبارها براديغماً فكرياً منه تتبلور الرؤى الفكرية والمشاريع الثقافية، أمام هذا الطوفان البصري الذي يجتاح كيّاننا ويُحوّل الأجساد البشرية إلى أيقونات بصرية باقية في الوجدان والذاكرة.
إنّ غياب هذا النّمط من الفكر داخل المجال الثقافي ساهم في تغييب وتهميش مثل هذه الموضوعات التي يتعاملون معها، بوصفها بذخاً معرفياً له علاقة بتحوّلات النظام المعرفي في الزمن المعاصر. لم تعمل الثقافة المغربيّة بكلّ أعيانها ورجالاتها على ابتداع وتكريس هذا التوجّه الفكري الذي ينطلق من الصورة ومفارقاتها في سبيل تحقيق مشروع فكري يقرأ تاريخ المغرب على ضوء الصورة الفنية وجمالياتها.
فلا غرابة أنْ تُباغتك العديد من المؤلّفات الجامعية التي لا تبتعد عن وثائق تقليدية ومناهج كلاسيكية في مقاربة موضوعاتها وإشكالاتها. لا يوجد في البحث التاريخي المغربي، أيّ أثرٍ للكتابة الجديدة كما نراها تتبلور في الفكر الفرنسيّ، بل إنّ امتعاض البعض عن إدراج لوحة أو فيلم أو أغنية أو قطعة موسيقية وجعلها أفقاً للتفكير داخل مؤلّفاتهم، يُضمر في طيّاته نوعاً من الهشاشة العلمية التي تُلخّص الكتابة التاريخية في الحدث السياسي ومكبوثه الاجتماعي وتبقى قاصرة على تحقيق شروط حداثة الكتابة داخل البحث التاريخي.
لم يقرب المُؤرّخ الفنّ السابع، لأنّه بالنسبة له مجرّد ترفيه، إذ يعتبر كل من كريستيان دولاج وفانسان غيغينو بأنّ المؤرّخ يجد نفسه في وضعية غير مريحة حين يُريد إخضاع الأفلام المعاصرة إلى التحليل وهو لا يحوز، بشكل مباشر، أدوات أرشيفية من قبيل شروط الإنتاج والكتابة وإخراج الأفلام. وبالتالي، فالسينما لديه لا تستحق أنْ تكون مُختبراً بصرياً يُقدّم للمؤرّخ مادّة فكريّة تسعفه على كتابة تاريخ جديد بعيد عن كلّ ما هو شفوي، وذلك من خلال استغلال الوثائق البصريّة وما تحبل به من معلومات ومعارف، يعمل على توثيقها وتأريخها وبلورتها داخل خطابه المعرفي. إذْ لا توجد مؤلّفات علمية جعلت من السينما مدخلاً معرفياً لفهم الخصوصيات المحلية والبحث عن وقائع جديدة تُعطي للمؤرّخ إمكانية كتابة تاريخ مغاير.
لكنْ في مقابل ذلك، استطاع العديد من السينمائيون طرق باب التاريخ من زاوية تخييلية، بقدر ما يستندون على قضاياه وإشكالاته كمُحاولة لإدانة الواقع، يبقى التخييل هو هاجسهم الوحيد. على هذا الأساس، لا يستطيع السينمائي أنْ يلعب دور المؤرّخ، فهو لا تهُمّه الأحداث والوقائع، بقدر ما يُطارد الصُوَر والاستيهامات ويُحوّلها مَشاهد سينمائية له وظيفة تخييلية. غير أنّ السينمائيون المغاربة مثل هشام العسري وسعد الشرايبي وعز العرب العلوي وغيرهم من المخرجين الذين استندوا على التاريخ، لم يكُن هدفهم منه إلاّ التعامل معه باعتبارها سنداً واقعياً يُخوّل لهم تحقيق حداثة بصريّة على مُستوى الصورة. فالانطلاق من التاريخ المحلي أو الوطني يُعطي للعمل السينمائي تجذّره في الواقع ويمنحه ديمومة متواصلة داخل النسيج الاجتماعي الذي ينتمي إليه المُخرج.