ليس المسرح بمفهومه الفكريّ، هو ذلك الذي تُقدّمه لنا مسرحياتٌ مغربيّة عبر جرعات مُفرطة من الضحك، ولكنْ ما يتمّ تمريره عبر رسائل قويّة ذات علاقة بالسياسة والاجتماع. حين يهُمّ المرء بقراءة وتأمّل مشهد المسرح المغربيّ اليوم، يجد نفسه في خضمّ تجارب مسرحية واعدة معدودة على أصابع اليد الواحدة، تعمل بشكلٍ خفيّ على تجديد أفكارها ومنابعها، بما تطرحه من أسئلةٍ حرجة ذات علاقة بالتحوّلات التي تطال الاجتماع المغربيّ اليوم. ورغم أنّ هذه التجارب، لا يُمكن النّظر في عموميتها واعتبارها رائدة أو حتّى امتداداً فنياً لما جاء به جيلي السبعينيات والثمانينيات، فإنّها على الأقلّ تسعى جاهدة إلى تقديم رؤية مُختلفة إلى الواقع الذي تنتمي إليه.
لقد ولقى ذلك الزمن الجميل الذي كان فيه المسرح المغربيّ، يُعدّ مُكوّناً هامّاً من الثقافة المغربيّة الحديثة ورافداً أساسياً لتكريس الفعل الفنّي، باعتباره اختياراً وجودياً وانتماءً حقيقياً وتاريخياً لطبيعة المرحلة الحرجة التي عاشها البلد آنذاك، فهو لم يكُن ترفاً جمالياً، لكونه كان اختياراً أصيلاً لفعل المُقاومة والنضال، من أجل استرجاع بعض مكاسب الحقوق المدنية التي شكّلت قاطرة نحو تحديث المجتمع.
لعب المسرح في السبعينيات دوراً بارزاً على مُستوى تشكيل النخب الفنّية وجعلها أكثر وعياً بالسياق السياسي التحديثي الذي تبناه اليسار، فجاءت الأسماء المسرحية، بوصفها تجارب حقيقية مُضمّخة بجراح السياسة وتختزن في شخصياتها ووقائعها وأحداثها مشروعاً سياسياً حقيقياً قادراً على الخروج بالمجتمع من براثن التقليد والاجترار.
ولا شكّ أنّ الجدل الذي خلقته بعض المسرحيات، بما تعرّضت له من تضييق من لدن بعض المؤسّسات الثقافيّة الرسمية وإحكام الحركات الإسلامية قبضتها على الأوساط الاجتماعية ودعوتهم إلى مُحاربة كلّ فكرٍ تحرّري، ما يشي بالدور الذي لعبته مسرحيات وأفلام ودواوين وكتب في تحرير مُخيّلة المجتمع والدفع به صوب الحداثة والتحديث. فالرهان كان سياسياً وفكرياً بدرجةٍ أولى، قبل أنْ يكون ترفيهياً وتجارياً.
لذلك فأغلب الأعمال شاهدناها للفنّان الطيب الصديقي، باعتبارها تنحت مساراً فكرياً مغايراً سيفتح الطريق للكثير من المسرحيين المغاربة، بعدما عمل الصديقي على جعل نصوصه المسرحية تمتطي صهوة التحديث، لا بطريقة تجعلها صورة مُصغّرة عن المسرح الغربي، بل لكونها رامت إلى تجريب التراث العربي واستلهام بعض من نماذجه وصُوَره داخل أعماله المسرحية.
شكّلت أعمال الطيب الصديقي مُختبراً لميلاد حداثة مسرحية تجد ملامحها في التراث الشعبي العربيّ، بعدما قام الراحل باستكناه جوهر هذا التراث والعمل على مسرحته، وجعله شكلاً مسرحياً عربياً خالصاُ. لذا فإنّ هذا التجريب الفنّي في ابتداع أشكال وقوالب جديدة، قاد الأجيال إلى فهم معنى الحداثة مسرحياً، فهي ليست استعارة كلّية لما أنتج وعُرص وأبدع في فرنسا وأمريكا وألمانيا، وإنّما السفر في عمق التراث المغربي واجتراح شكلٍ مسرحيّ جديد قادر أنْ يكون قالباً فنياً وفضاءً تخييلياً لبورة الصُوَر والأفكار والرؤى والأحلام. إنّ الحداثة في المسرح المغربيّ، بدأت في اللحظة التي أدرك فيها الفنانون المغاربة أنّ وظيفتهم تتجاوز فعل الاقتباس والاجترار، وذلك من خلال البحث والتفكير في أشكال مُختلفة تُبهر الناس بما يُمكن تحقيقه على خشبة المسرح المغربيّ.
ففي خضمّ هذه الحداثة المتخيّلة وما فرضه الواقع من تحوّلات وهواجس وتطلّعات، لا يُمكن إنكار ما ظلّت تتضمّنه هذه المسرحيات السبعينية والثمانينية من أبعاد سياسية وإيديولوجية، بدا فيها العمل الفنّي وكأنّه في خدمة السياسة والحزب، إذْ لم تكُن الأبعاد الفنّية والجماليّة ما يُظلّل سيرة العمل المسرحي، ولكنْ بما تختزنه من أنماط فكريّة أيديولوجية.
لكنْ ما تلاشي وانقشاع أفكار اليسار من المَشهد الاجتماعي المغربيّ وفطنة بعض الفنّانين إلى ضرورة تخليص مسرحياتهم من كلّ الشوائب الإيديولوجية بطريقةٍ يغدو فيها العمل متحرّراً من كلّ شيء، بل حتّى من سُلطته على نفسه وفتح الفضاء المسرحي على عناصر فنّية تفرض سُلطتها على المُشاهد، بعيداً عن الجمهور مثل الأداء والرقص والموسيقى والسينوغرافيا.
غير أنّ الأمر، الذي لم ننتبه إليه، هو أنّ تراجع المسرح السياسيّ في المغرب، قد فسح المجال لبروز مسرح الصالونات ونموّ ثقافة الترفيه والتهريج داخل المجتمع المغربيّ، بعدما غدا المسرح المغربي مع بداية الألفية الثالثة عبارة عن فسحة للضحك وتفاقم للبلاهة باسم الفنّ والجمال. ليس مسرح الصالونات، هو ما يستطيع أنْ يُحرّر المجتمعات من التقليد ويدفعها إلى أنْ تُصبح مجتمعات مُنتجة ومُشاركة في صناعة العمل الفنّي، بل المسرح الرمزي الفكري المُتجذّر في أصالته والقادر على طرح أسئلة حقيقة تتعلّق بالراهن المغربيّ، سياسة واجتماعاً، كما هو الحال في بعض مسرحيات الجيل الجديد مثل محمد الحر وأسماء هوري وأمين ناسور وغيرهم.