ما يميز هذا التحول هو أنه لم يكن وليد لحظة عابرة، بل نتيجة استجابة نابعة من وعي وطني، حين لبّى محمد كريم العمراني، أحد أبناء العائلات الفاسية، نداء الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1981 لإعادة الإشعاع لمدينة فاس ومآثرها، والمساهمة في اقتصادها المحلي.
ولم يكن الهدف فقط ترميم فندق مهجور، بل إعطاؤه حياة جديدة بوظيفة ثقافية متجذرة، حيث بادر العمراني إلى جمع القطع المتحفية من مختلف مناطق المغرب، لينتقل المتحف من صفر مقتنيات إلى حوالي 1400 قطعة، كلها تعود إلى قرون مضت، وتشمل أدوات تقليدية، صناديق منقوشة، آلات موسيقية، أثاثاً خشبياً وأسلحة رمزية، في عرض متكامل يوثق تطور فن النجارة بالمغرب ويعكس عبقرية الصانع التقليدي.
وفي حديثه إلى Le360، أكد محمد الشادلي، محافظ متحف النجارين وأستاذ باحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط، أن المتحف يقدم رحلة بصرية وحسية عبر تاريخ فنون الخشب بالمغرب، إذ يضم مجموعة فريدة من القطع التقليدية، ضمن سينوغرافيا تفاعلية مدعومة بشروحات متعددة اللغات، تُمكّن الزائر من خوض تجربة غنية تنفتح على عمق الذاكرة الحرفية المغربية ومكوناتها الجمالية والرمزية.
وقد نال هذا الجهد الاعتراف الرسمي بداية الأسبوع الجاري، حين حاز المتحف على أول علامة وطنية للمتاحف بالمغرب، وهي مبادرة أطلقتها المؤسسة الوطنية للمتاحف يوم الاثنين 19 ماي 2025 لتثمين المؤسسات التي تستوفي معايير الحفظ والعرض والتفاعل الثقافي، وجاء هذا التتويج بعد تقييم شامل أشرفت عليه لجنة متخصصة من خبراء المؤسسة ووزارة الثقافة.
ويُعد هذا الاعتراف تتويجا مزدوجا، لمتحف حافظ على الذاكرة الحرفية المغربية، ولجهد نموذجي ساهم في ربط الحرفة بالثقافة والسياحة، لكونه أصبح اليوم محطة مركزية في المسارات السياحية للزوار الأجانب، الذين يتقاطرون عليه لاكتشاف جماليات الخشب المغربي في قلب معمار تراثي فريد، كما يفتح أبوابه للمدارس والباحثين، ويحتضن ورشات ولقاءات تهدف إلى نقل هذا الإرث للأجيال القادمة.
وتجدر الإشارة إلى أن تسعيرة الدخول إلى المتحف لا تتجاوز 20 درهما، ما يجعله متاحا لفئات واسعة من الزوار، وهو ما يدعو إلى حث المغاربة أنفسهم على زيارة هذا الصرح، لأنه لا يروي فقط تاريخ فن تقليدي، بل يعكس جوهر الهوية الثقافية للمغرب ويجسد قدرة المدينة العتيقة لفاس على التجدد والابتكار دون الانفصال عن روحها التاريخية.




