في سنوات خلت، حين كان المدّ الإيديولوجي مُنتشراً بقوّة وسط أوساط المثقفين، كانت الثقافة المغربية بخير. بحيث كان السياسي يعتبر نفسه مثقفاً، من الضروري أنْ يُشارك في ندوات ثقافيّة إلى جانب شعراء وقصاصين وسينمائية، يُعطي وجهة نظره من مدخل السياسة الثقافية قبل أنْ يُعرّج على بعضٍ من أشكال التعبير الأدبي القريبة من نفسه وجسده ووجدانه. لهذا ظلّ القارئ خلال فترة السبعينيات والثمانينيات يجد نفسه وسط كوكبة من الناس تختلف مشاربهم الإبداعية والعملية، لكنّهم يلتحمون بالمُمارسة الثقافيّة كما لو كانت خبزاً أو ماءً. الثقافة كانت لمغاربة هذه المرحلة، تُمثّل المدخل الحقيقي لمواجهة التخلّف والانكسار. لم يكُن عيباً على السياسي المُنخرط في الأحزاب والنقابات مشاركة في ندوات ثقافية ولقاءات فنّية أو تأليف دواوين شعريّة أو نصوص أدبيّة، طالما يعتبر نفسه مُرغماً على ذلك، حتّى لا يظلّ في الهامش، بعيداً عن الجدل الذي يشهده الواقع.
جل المدونة الأدبية المغربية، نجد عشرات من الكتاب الذين ظلّوا يُزاوجون بين السياسة والأدب، مثل عبد الكريم غلاب ومحمّد الأشعري وبنسالم حميش وغيرهم. فقد اعتبر البعض أنّ السبب راجع إلى رغبتهم الشديدة في الانتساب إلى مراكز القرار، لكنّ المتأمّل لطبيعة المرحلة التاريخيّة، سيكتشف بأنّ طبيعة المرحلة فرضت على المثقف نوعاً من التعاقد الرمزي مع السياسة لأهداف في مُجملها إيديولوجية نفعية. بل كانت الثقافة في حضن السياسة والحزب بخير، رغم تبيعتها للسياسة على مُستوى التفكير والتسيير والتدبير. الالتزام السياسي لم يكُن مشكلة بالنسبة للكتاب، بل ساهم في تكريس مفاهيم نضالية قوية ذات صلة بـ « المثقف الغرامشي » المُلتحم بقضايا ناسه ومُجتمعه. لكنْ مشكلة الالتزام بدأت بالضبط خلال تسعينيات القرن الماضي، حين بدأ العديد من المثقفين يتركون الأدب ومُتخيّله والدخول إلى السياسة وسراديبها. المنطق النفعي هو الذي أصاب الثقافة المغربية بالشلل وحكم عليها بالتقليد وجعلها اليوم أشبه بثقافة المناسبات، حيث غدت مجرّد إكسيسوار.
رغم انتماء محمّد الأشعري وبنسالم حميش إلى السياسة، كتبوا مجموعة من الأعمال الأدبيّة القويّة في مُنطلقاتها والغزيرة في أفكارها، كشهادة عن مرحلة سياسية عاشوها داخل يسار ظلّ يتأرجح بين الحداثة والتقليد. في أعمال روائية، تتسرّب أفكار الأشعري النقديّة تجاه مرحلة سياسية اتسمت بالصراع بين تيار تقليدي كان يتبناه الإسلامويون، وبين تيار حداثي تقدّمي تبناه اليسار. كما كانت العديد من الأعمال الشعرية الأولى للأشعري، بمثابة شهادة شعرية أصيلة ذات صلة بمواجه الذات، وهي تُصارع على البقاء. تجربة غنيّة يُمتزج فيها الأدب بالسياسة لكنّ هدفها يبقى واحداً مُتعلّقاً بالالتزام بين أصالة المبدأ السياسي والسؤال الثقافي. في حين هاجر حميش إلى كتابة التاريخ من خلال عددٍ من روايات، رغم أنّه كتب روايات ثرّة وأصيلة ذات ميسمٍ تاريخي، تُعيد قراءة التاريخ العربي الإسلامي، انطلاقاً من الشكل التعبيري السرديّ، بحكم أنّ السرد يُتيح إمكاناتٍ مُذهلة للتعبير الحرّ.