بمناسبة صدور عمله الشعري الجديد « نسيت حذاءك يا أبي » الصادر حديثاً بالأردن والذي حقّق مبيعات كبيرة خلال الدورة الماضية من معرض الكتاب بالرباط، كان لنا معه هذا الحوار:
أوّلاً، ماذا تقول لنا عن عملك الشعري الجديد « نسيت حذاءك يا أبي »؟
هذا العمل عبارة عن قصيدة واحدة، وصدر في الأردن وقضيت مدة سنتين وأنا أكتب هذا الديوان الشعري، بحيث كانت ولادته تأتي من فشل أنني أفشل في الكتابة عن الأدب باللغة الفرنسية. ورغم أني أكتب دائماً باللغة الفرنسية سواء رواياتي أو كتبي النقدية وعلاقتي بها جيدة لغة وكتابة، بحكم اشتغالي كأستاذ جامعي متخصص في الأدب الفرنسي، لكنّي لم أتجرأ على الكتابة باللغة العربية. لهذا لم أستطع الكتابة عن أبي بالفرنسية لأنها لغة لا تُشبهه فأبي كان مُعلّماً نهاية السبعينيات وطيلة الثمانينيات إلى أنْ توفي في نهاية التسعينيات. وكان مُعرّباً وهو نموذج المعلّم الأصيل الذي درس التعليم الأصيل وحفظ القرآن وخطيب جمعة. فتشبثه باللغة العربية كان كبيراً. وأنا اليوم حين أتذكّر اللغة العربية أتذكّر والدي فهي لغة أبي بامتياز.
ولذلك لم أفطن إلى هذه المسألة إلاّ في السنوات الأخيرة. فجملة واحدة باللغة الفرنسية يتعذّر عليّ كتابتها فلا تأتي القصيدة. لكنْ في اللحظة التي كُنت فيها داخل بلدٍ عربي، شعرت أنّني بدأت أستعيد علاقتي بهذا الديوان لكنْ باللغة العربية. لا أعرف كيف تم ذلك، لكنْ في اللحظة التي أدخل فيها إلى الفندق في المساء تبدأ كتابتي باللغة العربية، وفجأة بدأ طيف الوالد يزورني ويأتي إلى القصيدة وفرحت كثيراً بهذه الزيارة اللامرئية فرحة الطفل الذي يُحبّ والده والذي أعتبره معلّمي الأوّل.
تكتب في الشعر والرواية والنقد والفكر، لكنْ كيف تعيش هذا العبور بين الأجناس الأدبية ومشاربها؟
سؤال مهم ينبغي في الحقيقة إعادة طرحه والتفكير به، كيف نعبر من جنس أدبي إلى آخر؟ سأجيبك بعفوية بأنّ الحدود هشّة بين الأجناس حتّى أننا في نفس العالم. وكُنت دائماً أعتقد أني في نفس المجرّة والعالم، لكنْ إذا كان عندي جنسٌ أدبي ما أفضّله فهو الشعر، لأنّه يُضمر جانبياً اقتصادياً باللغة والشذرة التي يتوفّر فيها عنصر التكثيف والعزلة الخاصة بالجملة والعبارة وذات رمزية قوية ولا تُتعبني في إيصال الأشياء. أما في الرواية فعليك أنْ تشرح وأنْ تصف وتبني شخصية وتصنع الأحداث، لكنْ بالنسبة للقصيدة فهي تنوب عن الشاعر في التعبير عن أشياء أخرى.
وأنا أقرأ من جديد ديواني كقارئ ورغم أنّ الكثير من الأصدقاء وضعوا تأويلات لهذا الديوان، لكنّي لا أعرف حقيقة كيف جاء هذا العنوان. وأتذكّر وأنا صغير كيف كان أبي بمجرّد ما يضع حذاءه بالبيت آخذه وأقوم بالارتداء وكان هذا الأمر يُزعجه لأنّه يعتبره ليس « فال » خير.
وعندما توفي أبي أدركت أنّ ذلك الحذاء لم يعُد له وجود في نفس المكان والبيت والمدينة داخل القصر الكبير، لذلك أرى أنّ غياب الحذاء هو غياب الأب، لكنْ فيما بعد لبست حذاء الأب لدرجةٍ أنّ العائلة والمجتمع يصنعان منك شخصاً راشداً قبل الوقت ووصفته في الديوان بأنّه « أكبر منّي ».
لماذا هناك اهتمام بالسرد أكثر من الشعر؟
أيّ ناشر يهرب من الشعر فكلّما قدّمت إليه شعراً إلاّ وجلبت له بضاعة كاسدة لن تُباع والشاعر كيف يُنظر إليه اليوم على أساس ينبغي أنْ يكون من الدراويش والمجانين والمهمشين وربما مُحبّ للفقر. يُنظر إلى الشاعر اليوم باعتباره كائناً هامشياً. لهذا فإنّ الشعر غائبٌ اليوم، حتّى في الجوائز تحضر الرواية ولا يحضر الشعر. لهذا أعتقد أنّ قيمة الشعر وميزته تكمن هنا بالضبط. فأنا مقتنع بمفهوم الذائقة الشعورية، فلم أشعر أنّ الرواية تليق بأبي لذلك لم أكتب عنه في رواية، ولكنْ أدركت أنّ الشعر قادرٌ على أنْ يتلمّس بعضاً من الوجع تجاه والدي.
وحتّى البحث أو النقد الذي يُكتب عن الشعر ينبغي أنْ يكون ذاتياً، فالطلبة أنفسهم يجدون صعوبة في تفكيك القصائد والتأويل والتحليل، لذلك فهو يستعصي أحياناً. فأنا أدرّس في شعبة اللغة الفرنسية وآدابها دائماً أجد بعض المشاكل مع الطلبة في تحليل القصائد وأحيانا نُقضي محاضرة بأكملها حول بيت واحد لبودلير أو مالارمي. لكنْ في الرواية يستطيعون قراءتها بسرعة ويُحلّلونها ويُقدّمون مراجعات لها. لهذا أعتقد أنّ الشعر ينتمي إلى زمن آخر ووقت آخر أيضاً.