بعد شهور سأجدني وجهاً لوجه في ساحة الكلية مع محاضرة عبد الله العروي، ابتسمت في داخلي وأنا « مندهش ». لم أكُن أعتقد أنّ تلك الساعات القليلة التي قضيتها رفقة عبد الله العروي، وهو يُلقي محاضرته النوعية أنّها ستُغيّر حياتي إلى الأبد. كان اليوم خريفياً. كلّ الأساتذة تغيّبوا عن حصصهم للاستماع إلى ما سيقوله صاحب « مفهوم العقل ». كُنت حينها بالمُدرّج أدرس مادة حول تاريخ أوربا الحديث. أراهم يخرجون من المدرّج الثاني ومن القاعات المجاورة لي. أسمع أساتذتي الذين درسوا عند العروي وحصلوا على أطروحة الدكتوراه معه يقولون لبعضهم البعض، بأنّ المحاضرة ستبدأ مع الساعة العاشرة. جيشٌ من الطلبة والأساتذة والصحفيين وشخصيات وازنة تقف بشكل سامق في الساحة، والكلّ ينتظر ظهور عبد الله العروي. كُنت مثلهم في الساحة أحمل بين يدي كتاب « الرأسمال » لكارل ماركس ورواية لدوستويفسكي لم أعد أتذكّر عنوانها.
أقول في نفسي: من يكون هذا العروي ليتم وضع سجادات حمراء له والكل واقف يُلقي عليه التحيّة في احترام. كُنت صغيراً حينها وأكتب مجموعة قصص صغيرة أنشرها في جريدة محلية. كنت في العشرين من عمري. تقدّمت بطريقة لا واعية، دخلت من وسط الناس الذين يقفون بشكل منتظم لإلقاء التحيّة على العروي، وتقدّمت نحوه أمام الجميع، قُلتُ له بصوت جريح أكاد لا أسمعه حتّى أنا: « إسمي أشرف، وأنا كاتب وطالب في شعبة التاريخ » مد يده إليّ وابتسم، ثم انصرف لإلقاء التحيّة على باقي الضيوف.
القاعة التي سيُلقي فيها العروي المحاضرة مليئة بالناس، إذْ لا توجد مقاعد فارغة، فاضطرت الكلية إلى وضع أكثر من تلفاز بالساحة لمتابعة المحاضرة من الخارج. من يدخل من الباب ويرى كلّ هؤلاء الناس الذين حجّوا إلى الكلية، لن يُصدّقوا أنّ الأمر يتعلّق بمحاضرة حول «القاضي والمُؤرّخ».
في ذلك اليوم تلاشت أفكاري عن القصّة. لم أعُد أريد كتابتها (وبالفعل لم أكتبها) وقرّرت أنْ أحصّن نفسي لدراسة الأعمال التاريخية والفلسفية ذات الأثر العميق في الفكر البشري. كُنت محظوظاً لأنّ كُتب العروي كانت تُلازمني طوال مساري الدراسي، لم أتخلّى عنها يوماً. صار بعض الأساتذة يمنحونني تذاكر لدخول محاضرات العروي في مدن أخرى. وشيئاً فشيئاً، بدأت أدرك خصائص ومميزات الكتابة التاريخية عند صاحب « العرب والفكر التاريخي ». بل إنّي أتذكّر اليوم الجدل الذي خضته مراراً مع أساتذتي حول كتاباته، وما إذا كانت تنتمي إلى التاريخ أم الفكر. في حين أن مؤلّفاته الأخيرة، تُظهر بقوّة كيف ظلّ العروي يهتدي في كتاباته إلى الإقامة بين الفلسفة والتاريخ، وكيف يعمل على خلق نوعٍ من التقاطعات على مستوى التفكير بين التخصصين.
على مدار سنوات ظللت في الجامعة أسمع «حماقات» أكثر منها «معارف» حول تاريخ المغرب، بسبب الطريقة التقليدية التي يتمّ بها يت تلقين وتدريس التاريخ، لا باعتباره فكراً مُتجذّراً في الفضاء، وإنّما بوصفه حكاية مُثيرة، هي عبارة عن أحداث تاريخيّة، في حين يُقدّم لنا العروي مفهوماً مغايراً للتاريخ وطريقة كتابته. إنّ المشكل في كتابات العروي، كامنٌ في طريقة تلقّي فكره. فالجامعات المغربية، ماتزال تقليدية رغم التغنّي بالحداثة. لأنّ الطريقة التقليدية التي يتم بها اليوم تدريس التاريخ للمغاربة يشوبها ارتباكٌ كبير. ارتباك لم تستطع بعض المواد الحديثة أنْ تُزيل عنه غبار التقليد. ما الغاية من دراسة أحداث تاريخيّة، إذا لم نفهم أثر هذه الأحداث في الزمن الذي نعيشه؟ بهذه الطريقة يغدو التفكير في التاريخ مطلباً حيوياً وليس موضة نحنُ إليها، كلّما أحسسنا بخطر تلاشي التاريخ أمام أعيننا وفقدان التراث والهوية.