إنّ لغتيري حين يكتب المسرح يتعامل معه بطريقة تجريبية تقوده إلى البحث عن المنسي والعابر في ذاته وتحويله إلى مشاهد مسرحية باقية في الذاكرة والوجدان. النصّ المسرحي عند لغتيري عبارة عن مختبر لتكثيف القول وأداة للعبور صوب تفكيك الواقع وفهم بناه الداخلية، انطلاقاً من شخصيات تعيش على حافة الواقع والعبث. ويتعامل المؤلف مع شخصياته بطريقة يُسبغ عليها أفكاره ورؤاه وأحلامه، فهو يُحوّل الأحداث الواقعية إلى مشاهد سوريالية تُعبّر عن رؤية فكرية تجاه الوجود. تبدو مسرحيات لغتيري بسيطة من ناحية التعامل الجمالي، لكنّها قويّة من ناحية الخطاب الفكري.
بداية، ما الذي يعني لك كتابة مسرحية جديدة بعنوان « رأيتك في حلمي » في وقت ينسحب فيه المسرح إلى الوراء، أمام فنون تعبيرية أخرى؟
يدخل هذا الكتاب المسرحي الذي اخترت ان اعنونه بـ » رأيتك في حلمي » والذي يضم ثلاث مسرحيات مرفوقة بترجمتهما للغة للفرنسية ضمن تصور خاص للكتابة، يجعل التجريب بوصلته، التي توجهه في العملية الإبداعية، ففي رأيي المتواضع بفضل تنويع الأجناس الأدبية والتيمات والأشكال الكتابية يجدد الكاتب ذاته، وآلياته في الكتابة، ويقدم للقارئ منتوجاً جديداً، مختلفا ونوعيا، يجعله يخرج عما ألفه منه من كتابات لدى نفس الكاتب، وربما يساهم ذلك في غنى ريبيرتوار الكاتب، وقد يضيف شيئا جديدا للكتابة الأدبية عموما والكتابة المسرحية على الخصوص، خاصة أن ذلك يحدث بعد تجربة طويلة في الكتابة القصصية والروائية، وهذه الإضافة هي ما أتمنى ان تكون قد تحقق بعض منها خلال هذا المؤلف المسرحي الجديد.
تتكون المسرحية من 3 نصوص قصيرة، ما الخصائص الفنية والمرتكزات الجمالية التي تجعل النصوص تترابط بين بعضها البعض لتجترح خيطا ناظما؟
أظن ان قارئ هذه النصوص ستستوقفه -لا محالة- مجموعة من الملاحظات، اولها ان المسرحيات كتبت للقراءة وليس لتمثل فوق الركح، لأن تمثيلها يحتاج إلى إعادة الكتابة، حتى تناسب رؤيا المخرج وتصوره الاحترافي لخشبة المسرح، مما يعني أن اسلوب الكتاب والفكرة العامة التي تدور حولها كل مسرحية على حدة، هي المحور الذي يراهن عليه المؤلف، ويمكن كذلك ان يلاحظ ان الكتابة المسرحية في النصوص تختلف عن الكتابة التقليدية، وبأن العبث واللامعقول يخترقها، وهو شيء مقصود يعبر عن عبثية الوجود الانساني في عالم اصبح كل شيء فيه محل شك، إذ تراجع اليقين مع تراجع الإيديولوجيات الكبرى، وتسيّدت الفردانية بشكل كبير، وأصبح كل إنسان يخلق إديولوجيته الخاصة، كدت اقول مصيره الخاص، بعيدا عما ألفناه من قيم حكمت العصور السابقة، وما تزال بعض من شظاياها تصيب بعض الحالمين، الذين هم كذلك أصبحوا جزرا معزولة، يفصل كثير من الشك واللايقين فيما بينها
في المسرحيات ال3 تمتزج السوريالية بالغرائبية والعبث بالواقع. كيف وعيت ذاتك مسرحيا من خلال هذه الأنماط الفنية وفق قالب تركيبي؟
من وجهة نظر معينة يشكل العبث عمق الوجود الإنساني في المسرح العالمي، وقد استفاضت في شرح ذلك نظريا على الأقل الفلسفة الوجودية، وقد انبثق عن هذا التصور اتجاه أدبي ومسرحي تزعمه يوجين يونيسكو، الذي كتب مسرحيات تحتفي بالعبث وتكسر القوالب التقليدية التي اعتادها كتاب المسرح. في هذه المسرحيات انطلقت من نظرة خاصة للعالم تعتبر أن الفوضى واللا نظام هي الأساس، الذي يحكم حياة الإنسان، وأن ما يظنه الناس ثابتا ومستقرا ومعقولا في حياتهم هو في حقيقة الأمر أو على الاقل من وجهة نظري الشخصية مجرد وهم، فيكفي ان تترك الناس على سجيتهم ليوم واحد، دون تدخل من السلطات ليخرجوا عن السيطرة وليكشفوا عن جوهرهم الحقيقي الميال إلى الهدم بدل البناء، وألم الفوضى بدل النظام، وقد حاولت من خلال هذه المسرحيات إبراز بعض ذلك من خلال الاتكاء على العبث واللامعقول والحلم وتداخل الواقع بالخيال، كل ذلك يهدف إلى وضع المتلقي في حالة من الشك والبلبلة، التي قد تفتح عينيه عن الواقع المأسوي والعبثي، الذي يختفي وراء قشرة العقل والمنطق والنظام
أمام التحولات الكبيرة التي يعرفها المسرح العربي، إلى أي حد في نظرك تستطيع الفرجة المسرحية أن تجيب عن قضايا وتحولات الواقع العربي المعطوب؟
لعب المسرح عبر تاريخه الطويل دورا إيجابيا في كشف خبايا الواقع، وتقديم المفارقات التي تسيطر على حياة الناس في احوالهم المتعددة داخل المجتمع في حالة السلم والحرب، حتى تجعل الناس يرون أنفسهم على مرآة عاكسة، تتميز أحيانا بواقعيتها المفرطة وأخرى بالطابع الكوميدي وأحيانا اخرى بنوع من التراجيديا، بل اعتمدت الطابع التجريدي أحيانا. والمسرح العربي شأنه شأن المسرح العالمي جرب كل الطرق والوسائل ليقدم فرجة للمتلقي العربي، غير ان الطابع الواقعي والتجاري هيمن على المنتوج المسرحي، زهو الطابع الذي روجت له وسائل الإعلام لمدة طويلة، وبقي المسرح الطليعي في الظل يخاطب النخبة ويعرض مسرحياته في الجامعات، لكنه مع ذلك قدم خدمة جليلة للطلبة والمثقفين، وساهم بشكل فعلي في بلورة وعي ثقافي وجمالي، ما كان ليتحقق دون هذا النوع من المسرح.
المسرح المغربي يعتبر من التجارب الرائدة في العالم العربي. كمؤلف مسرحي كيف تنظر إلى مدى حضور تجارب الرواد داخل المسرحيات الجديدة؟
اختط المسرح المغربي لنفسه مسارا متميزا وطويلا، وقد ساهم فيه الرواد بشكل كبير من خلال مسرحيات كانت الإذاعة والتلفزيون يذيعانها على مدار الأسبوع، وكانت بحق تحقق متعة للمتلقي، حتى بالنسبة لغير المتعلمين، وقد نهلت من التراث العربي والمغربي بشكل واضح، كما استلهمت تحولات المجتمع، حتى وإن كان ذلك بشكل سطحي أحيانا، ثم ساهم المسرح الجامعي والمسرح الاحتفالي في تعميق النفس التجريبي داخل المسرح المغربي، فأهله ذلك للفوز بجوائز كبرى في شتى الدول العربية، خاصة مع جيل الطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد ومحمد وردة والطيب لعلج وغيرهم، كما ساهم المسرح الكوميدي في خلق الفرجة المرغوبة من طرف الجمهور، وابدع في ذلك مسرح الحي ومسرح الجم ومسرح البدوي وغيرهم ، واليوم تميز في هذا المسرح على الخصوص اقصد المسرح الكوميدي المبدع حسن الفد وحنان الفاضلي. كما ساهم المسرح الفردي مع كل من عبد الحق الزروالي وبزيز وباز وغيرهم في تطعيم الفرجة بنفس فرجوي جديد. لكل ذلك لا يمكن لأعمال الرواد إلا ان تجد في التجارب الجديدة بعضا من صداها، حتى وإن كانت تطمح لتختط لنفسها مسارا خاصا ومتميزا.
على مستوى الشكل، ما حدود التقاطع والتلاقي بين التجارب المسرحية الحديثة ونظيرتها المعاصرة؟
ما دمنا في مجال واحد أقصد المسرح، فالتقاطعات لا بد ان تكون كثيرة واهمها البحث عن الطريق الأفضل لبلورة فرجة تتميز بطابعها التجريبي، الذي يراهن على المتلقي، بحيث يصبح هذا المتلقي جزءا من الفرجة، بل يساهم فيها بشكل فعلي، وليس فقط من خلال التماهي مع الشخصيات، كما أنها تحاول البحث عن آفاقا جديدا خاصة عل مستوى الديكور والملابس والاكسيسوارات، إذ اصبح مثلا للإضاءة دور كبير في العمل المسرحي، كما أنها تحاول قدر الامكان الابتعاد عن الاسفاف لتستغل على المشاكل الحقيقية لتي تحاصر الوجود الإنساني في بعد الفردي كالا غتراب مثلا، وبعده الجماعي، من خلال عكس الصراعات المتعددة، التي تعاني منها الجماعات داخل المجتمع
كيف يستفيد في نظرك المسرح من الأدب؟
ليس المسرح بعيدا عن الأدب فهو يعتمد بشكل مباشر على النص المكتوب قبل ان يتحول إلى شخصيات تؤدي أدوارها على الخشبة، وبالتالي لا بد ان تكون الاستفادة كبيرة، خاصة إذا اعتمدت على نصوص يكتبها أدباء خبروا خبايا وسراديب الكتابة الأدبية وألفوا نصوصا كثيرة في هذا المجال. وغني عن البيان ان المخرجين المسرحيين في حاجة دائمة إلى تعميق رؤياهم تجاه عملهم وتجاه العالم الذي يعيشون فيه، والأدب الموجه برؤيا الكاتب يتيح لهم هذه الرؤيا العميقة، التي تتجاوز القشور الخادعة، لتنصب على عمق الأشياء، طبعا بعض إضافة المخرجين للمستهم الاحترافية الخاصة، التي تجعل النص قابلا ليتحول إلى مشاهد فرجوية، تتمتع بقدر كبير من الدرامية وتحقق بالتالي الفرجة المشتهاة من قبل الجمهور.