لذلك بدا مفهوم الحداثة، بوصفه نشيداً كونياً قادراً على إخراج الناس من التأخّر التاريخي والواقع المأزوم الذي يرزح تحته العالم العربي الإسلامي منذ مطالع الحقبة الحديثة أو قبلها بكثير. ونظراً إلى هذا التصدّع الذي عانى منه العرب على مُستويات سياسية ودينية واجتماعية وثقافية، أصبحت الحداثة مطلباً وجودياً بتعبير هيدغر، من أجل ركوب موجات التحديث التي طالت البلدان العربية منذ البواكير الأولى للاستعمار، طالما أنّ كارل ماركس يعتبر في الأخير شكلاً من أشكال تحديث الشعوب.
من ثمّ، عمل العديد من المفكّرين العرب أمثال محمّد عبده ورفاعة الطهطاوي والكواكبي ومحمّد أمين في إطار ما سمي برواد « حركة الإصلاح » أو « النهضة العربية » على إعادة التفكير في مُختلف اليقينيات السطحية المميتة المتعلقة بقضايا وإشكالات مركزية طالت السياسة والدين والتراث والقطيعة والمرأة والواقع. فبرزت هذه المفاهيم منذ ذلك الإبان، بوصفها براديغمات جامعة تنضوي تحتها مجموعة من المفاهيم الفرعية التي تُشكّل المأزق الحقيقي لهذا التأخّر التاريخي كما سمّاه عبد الله العروي.
لكنْ، شيئاً فشيئاً بدت الرؤية تتّضح في أنّ تجديد هذه المفاهيم لوحده قد لا يكون سبباً في تحقيق التحديث والحداثة لكون الواقع العربي غير مؤهّل للإيمان بهذه المفاهيم الغربية الكونية، في وقت لم تُحقّق فيه الشعوب المقهورة نهضتها على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. فكيف يجوز الحديث عن ميلاد التحديث وتكريس الحداثة داخل مجتمعات جاهلة وجائعة؟ لكون الحداثة تفترض إلى حرية الإرادة والاختيار، والشخص لا يكون حراً إرادياً إذا كان جاهلاً وجائعاً.
لهذا برز الوعي بهذه المسألة والعمل على تفكيكها، بوصفها ظاهرة بنيوية قادرة على التأثير في الإنسان. من ثمّ، حاول المفكّرون العرب منذ عودتهم من الدراسة في أوربا على خلق مبدأ من التوفيقية داخل الفكر العربي الحديث، حيث سيكون هذا المبدأ أحد العوامل الأساسية لعدم نجاح فكر النهضة العربية وإخفاقه الدائم في التأثير بالمجتمع العربي، من أجل استعادة عافيته، بما يجعله مجتمعاً ناضجاً قادراً على الاندماج في ركب الأزمنة المعاصرة.
تبرز إشكالية الديني والسياسي بمثابة ثنائية كبرى ماتزال إلى حدود اليوم تشغل الكتابة التاريخيّة المعاصرة، ليس لأنّ الكتابات السابقة مع عبد الله العروي وهشام جعيط ومحمّد عابد الجابري والطيّب التزيني، لم تستطع تفكيك هذه الجدلية، بل لصعوبة تأهيل الواقع العربي وتحديثه، بما يجعله يفهم ويُؤمن بضرورة التمييز بين الديني والسياسي داخل المجال التداولي الذي لم يحسم فيه المغرب، فبرزت حدّته خلال سبعينيات القرن العشرين، بعدما عملت والمؤسّسات على تسيس الدين، وجعله قوّة ضاغطة على المجتمع من أجل رفض وإجهاض المشروع التحرّري اليساري التحديثي الذي بدأ يتشكّل منذ نهاية الستينيات.
فكانت الوسيلة الوحيدة بالنسبة للدولة هي استغلال الرأسمال الديني في المنازعات السياسية اليوميّة أو بعابرة أخرى مزج الديني بالدنيوي والعمل على استغلاله كقاطرة صوب تحقيق المشروعية السياسية. ومنذ ذلك الوقت عمل كُتّاب ومثقفون ومفكّرون وأدباء على ضرورة فضح هذه المرتكزات الدينية التي تأسّست عليها المؤسّسات والجهر بحقائقها عن طريق كتابات اختلفت في مقاربتها بين الفلسفة والتاريخ والسوسيولوجيا في سبيل إغناء النقاش الفكريّ وتوجيه نقد لاذع إلى هذه التجربة التي ستتكرّر أمام عيون المجتمعات المعاصرة خلال الربيع العربي الذي أفرز تجربة سياسية استغلّت الدين، وإنْ كانت بطريقة ديمقراطية عن طريق صناديق الاقتراع وغيرها.