تُعتبر الباكالوريا مرحلة جد هامّة في مسار المُتعلّم، لأنّها تنقله من مرحلة إلى أخرى. بل إنّها تجعله يدخل في حياة جديدة، يقطع فيها مع ذكريات ويوميات الثانوي ويتطلع بعنفوان إلى عيش مغامرة حياتية أخرى داخل الجامعة. في هذه المرحلة بالضبط، تختفي كلّ الأحلام الوردية التي أقامت في قلوبنا سنوات طويلة، بحيث تُصبح محض خرافة وهباء. ورغم أنّ التلميذ المُجتهد يكون على الأقلّ يعرف ما الذي سيدرسه السنة القادمة وأيّ مجال سيتخصّص فيه، إمّا لإيمانه بمادّة يُحبّها أو وظيفة يُريد أنْ يمتهنها أو توجيه دقيقٍ وصارم من عائلته، إذا كانت تتوفّر على قسطٍ من التعليم بمُختلف أبعاده المعرفية.
إنّ الخوف الذي يُرافق التلميذ بعد الباكالوريا، أصعب من هذه السنة الدراسية السخيفة نفسها التي تعوّد المغاربة اعتبارها مُنعطفاً « خطيراً » في حياة أولادهم. بل لا تتوقّف العائلات والمؤسّسات التعليمية على تضخيم الباكالوريا في المُتخيّل الجمعي، وكأنّ كلّ من حصلوا على الباكالوريا، يعيشون الآن نعيماً يُحسدون عليه، وبالتالي، أصبحوا يشغلون مناصب عليا. مع أنّ الإحصاءات السنوية تبقى مُخجلة، إذْ تُسجّل مدى تفاقم البطالة في صفوف الشباب، سواء داخل الجامعات أو معاهد التكوين المهني.
ثمّة حقيقة ينبغي أنْ نستسيغها، كون أنّ تعليمنا الجماعي مُنهدّ وينبغي إصلاح هذه المنظومة التعليمية بجميع تخصّصاتها ومَسالكها، بدل أنْ نفتخر بالمعدّلات التي حصل عليها تلامذتنا، ينبغي الخروج من التصدّعات والمآزق التي تعيشها المنظومة. فلا غرابة أن يجد التلميذ النجيب الذي حصل على أعلى مُعدّل في جهةٍ ما نفسه مُعطّلاً بدون وظيفة، لأنّه درس تخصصاً علمياً أو أدبياً، لا علاقة له بالواقع وما يفرضه من متطلّبات داخل سوق الشغل.
إنّ المرحلة التي نعيشها اليوم، أخطر ممّا نعتقد، فبدون تعليم جيّد وأصيل، لا مستقبل لأطفالنا. فالجامعات تنتج البطالة، والمعاهد لا تُحقّق المطلوب من ناحية التكوين. لهذا على الجهة الوصية على التعليم أنْ تجد مقابلاً، بين ما يُدرّس داخل الجامعات والمعاهد، وما يفرضه الواقع من تحوّلات على مُستوى التوظيف. فبدل الجري وراء تغيير التخصّصات والتفكير في وضع تعاقدات داخل النظام الجامعي، علينا التفكير أوّلاً في الطريقة التي ننقذ بها هؤلاء الشباب من الضياع اليوميّ الذي يعيشونه. ثمّة مواد ماتزال تُدرّس داخل كليات الآداب، لا أحد يعرف الطريقة التي ستخدم بها الطلبة، بعيداً عن كونها معلومات موجودة في الكُتب لا أكثر.
ففي الوقت الذي تعمل فيه شعب التاريخ في أوروبا مثلاً على المزج في تكوينها بين التاريخ والحضارة والتراث، بما يجعل الطالب مُتمكّناً من هذه المجالات المعرفية كلّها التي تُساعده حتماً في الحصول على وظيفة بطريقة سهلة داخل مراكز البحث أو التدريس أو الصحافة أو السياحة أو المتاحف، ماتزال شعبة التاريخ عندنا عبارة عن تخصص معرفي، يجعل الطالب يعيش في غيبوبة الماضي. فبدل فرض تكوينات حيوية ذات علاقة بالتراث والسياحة والفن والحضارة عموماً، يتم حجز الطلبة مدّة 3 سنوات في سلك الإجازة لدراسة تاريخ المقاومة المسلحة والتاريخ السياسي وبعض نماذجه الاجتماعية خلال فترات مُتباينة من العصر الوسيط.
إنّ سياسة الكمّ لم تعُد جديرة بالاهتمام، أمام تحوّلات النظام التعليمي السريع في العالم. ليست المعلومة هي الأهمّ، بل الطريقة التي بها نكتسبها ونتعامل بها في حياتنا اليومية. فما فائدة الدراسة إذا لم تُساعدنا على فهم مُعضلاتنا اليومية في أمور تتعلّق بالصورة والجسد والذاكرة والقلق والفضاء العمومي؟ إنّ العلم سلاحٌ رمزيّ قويّ ونافذة مشرعة تُخرجنا من براثن الانحطاط الذي نعيشه.