بلد له تاريخ كبير وفنّ أصيل ضارب في قدم الحضارة الإنسانية، لا ينبغي أنْ تكون مؤسساته وكلياته ومدارسة فارغة من مواد تعليمية تتعلّق بالفنّ. لا تتوفّر كليات الآداب على تخصص تاريخ الفنّ، بما يجعل الطلبة والباحثين يعملون على التنقيب في تاريخ الفن المغربي ويبرزون قيمته وملامحه وجمالياته على ممرّ العصور. من سيشتغل في المتاحف وداخل مديريات الفنون وتقييم المعارض وتأطير الفنانين والمخرجين والموسيقيين، إذا لم نكُن سنوياً نُكوّن عشرات من الباحثين في تاريخ الفنّ. يبدو هذا المطلب البسيط وكأنّه ضربٌ من الفانتاستيك الساحر الذي يقود المرء إلى اكتشاف التأخّر التاريخي الذي تعيشه الثقافة المغربية وكأنّ في هذا النسيان يكمن خلاصها وبعثها. تاريخ الفنّ لا وجود له داخل الجامعة وحتّى إنْ وُجدت مادّة قريبة من معالم اهتمامه، فعادة ما تُسند إلى أكاديمي لا علاقة له بالفنّ بل لا يفهم ويستوعب حتّى الفرق بين « صورة » و« لوحة ». إنّ الأمر أعمق ممّا نتصوّر ويضعنا أمام مأزق أخلاقي أمام جامعات تونسية ومصرية وعراقية تتوفّر على شعب ومواد ذات صلة بـ « تاريخ الفنّ ».
يعاني النقاد من خصاص كبير حين يهمّون بكتابة مونوغرافيات عن فنان تشكيلي أو مخرج سينمائي أو مؤلف موسيقي، فيجدون أنفسهم أمام بياضات مهولة لا تُساعدهم على كتابة كتب نقديّة. كتابات في مجملها صحفية غير قابلة للاعتماد عليها كمرجع، في وقتٍ كان فيه المؤرّخ بسبب أدواته ومناهجه سيُقدّم كتابة أصيلة من ناحية المبدأ، كتابة عارفة بسياقها ونوازعها وجمالياتها التي تمتح مَعينها من العلوم الإنسانية والاجتماعية. بهذه الطريقة تكون كتابات المؤرّخ أرضية حقيقية مؤسسة على معرفة وقادرة بالنسبة للنقاد الفنّي على إنتاج المعنى داخل النصّ النقديّ. إنّ المؤرّخ وإنْ كان من مهامه التعامل مع الأحداث السياسية وتأثيرها في بنية الذائقة المعرفية ورصد المدارس الفنية والتيارات الجمالية والنظريات الفكرية المُتّصلة بعلم الجمال، إلاّ أنّه يتوجبّ عليه اليوم أنْ يتجاوز تخصصه كمؤرّخ أنْ ينفتح على كافة المجالات الأخرى مثل الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا. وذلك لأنّ الفنّ يقع وسط جميع هذه التخصصات المعرفية فكلّما تعدّدت زوايا النظر، استطاع المؤرخ أنْ يُبلور فكراً أصيلاً يجعل من العمل الفنّي قاطرة أو مطية لتحليل ظواهر هامشية في تاريخ المغرب وظلّت بسبب حساسيتها في حكم اللامفكّر فيه.
وجود تاريخ الفنّ بالجامعات المغربية سيُساعدنا في ضبط الكثير من ميكانيزمات الفن المغربي وفهم أعطابه ومآزقه وتصدّعاته وجمالياته وقيمته في الراهن المغربي. بل إنّه سيلعب لا محالة دوراً أساسياً وكبيراً في الانتقال من مرحلة الشفاهة إلى الكتابة. وهي ثنائية فكرية ماتزال تحتكم إليها الثقافة المغربية والعربية عموماً وتعتبر امتداداً للمرحلة الوسيطية التي لم يستطع معها العرب أن يغيّروا هذه الثنائية بدخول مرحلة الكتابة. إنّ أغلب الأعمال الفنّية معرضة للنسيان، بل لا يجد الباحث أيّ معلومات عن سنة إنتاجها والمواد التي بها صُنعت والغرض منها أو أين عُرضت وثمن بيعها. معلومات صغيرة لكنّها مُهمّة تضمن للعمل الفنّي حياة ثانية في وجدان الناس وذاكرتهم، كما تُتيح للباحث في التاريخ فهم اللحظات الجنينية التي يمرّ منها العمل الفنّي في طريق تشكّله ونموه واستمراره في حياة الثقافة المغربية المعاصرة.