نعرف بعضنا كأسماء ثقفيّة، لكنّنا لم نلتق يوماً، لكنْ حين التقينا بأحد فنادق مدينة سطات من أجل إجراء حوار معه حول تجربته الفنية، بدا وكأنّنا التقينا مراراً مع أنّه اللقاء الأوّل(والأخير). بسرعة البرق اشتبك الكلام وسافرنا معاً في تاريخ الفنّ المغربي، شعراً ورقصاً وفكراً ونقداً وفناً. وفي كل موضع كلامٍ ثقافي أجدني أمام رجل مذهل طالما سمعت عنه من لدن أصدقاء مفكّرين وأدباء، لكنّ اللقاء مع لحسن زينون له طعمٌ خاصّ. فالرجل يفيض حباً ويحترم الناس على اختلاف مشاربهم الفكريّة والإبداعية، فهو حريصٌ على فعل الحوار كعملية داخلية أولى لبناء تواصلٍ فعّال.
لذلك فحين اقترحت عليه الحوار قبله بفرح. فكلّما طرحت سؤالاً عليه ارتسم على وجهه ابتسامة خفيفة تظهر مدى حبّه وتعلّق بالأجيال الجديدة، فيكون الرد فيه نوعٌ من البهجة التي تترك القلب يرتعش من ألق الجواب وفتنته. إذْ يبدو زينون في كلامه شاعراً أكثر من كونه راقصاً ومخرجاً. ومع كلّ جواب أجدني مضطراً إلى التفكير معه في بعض القضايا والإشكالات التي تطال مفهوم الرقص المعاصر في المغرب. وبالتالي، فمنذ الأجوبة الأولى، تبيّن لي كم يُحبّ الرجل بلده وتاريخه وتراثه وذاكرته، إذْ سعى طيلة مساره الإبداعي في جعل التراث أفقاً للتفكير. فهو وإنْ درس عند كبار المصممين والراقصين في العالم، إلاّ أنّه ظلّ وفياً لتراثه وذاكرته.
في ذلك اللقاء الأخير مع لحسن زينون قبل أنْ يختطفه الموت قبل شهور. قال لي بعبارة مفادها أنّ دور الناقد الفنّي خلاّق ومُؤثّر في الحياة الفنية وذلك لكونه يتجاوز مفهوم الوسيط الذي تعودت عليه الثقافة المغربية. فهو شكلٌ من أشكال الفكر الذي يقود المرء إلى ابتداع مفاهيم تُساعد على تفكيك الأعمال الفنية ورسم أفق مغاير لها في ذهنية الناس. واستطرد زينون في الحديث عن كيف أحبط بعض النقاد في روسيا أحد كبار الموسيقيين بسبب مقالة واحدة كتبها عنه. ما أثارني بشدّة في زينون هو قدرته على بسط سيرته أمامي بشعرية مطلقة تجعل كلام يسمو عن الكلام العادي الذي نسمعه عادة عند المثقفين.
كان الراحل بسيطاً في طرحه وعميقاً في تفكيره ومتواضعاً في جلسته وهو يتحدثّ ويبستم في وجهي ويناديني باسمي. ولما انتهى الحوار وأغلق المُصوّر الكاميرا، لم ننته نحن، فجلسنا في مكان آخر وفتحنا نقاشاً حول سنوات الرصاص ووضعية الفنّ داخل مغرب متصدّع تُسمّى فيه التفاهة فناً. بل إنّ الحوار تشعّب أكثر ليشمل بعضاً من التضخّم الديني الذي اكتسح البلد منذ بداية القرن الحالي وكيف يُساهم في تغيير مفهوم الفنّ ودور الثقافة ووظيفتها.
انتهى الحوار، تعانقنا، على أمل أنْ نلتقي مرّة أخرى بالدارالبيضاء حتّى نُوسّع الحوار ونُعمّق معالمه بشكل علمي. عُدت إلى محطة القطار وأنا أمسك بيدي كتابه « الحلم المحظور » أنظر إلى صورتنا معاً وأفكّر في سبب تأخّر هذا اللقاء؟ لكنّي لم أعرف أنّه سيكون اللقاء الأوّل والأخيرة مع لحسن زينون، هذا الرجل الذي زاوج بين الحداثة والتراث وفق منظورٍ تركيبي كوني يخترق الحدود والسياجات ويبني للرقص أفقاً بصرياً مختلفاً داخل ثقافة مغربية تقليدية تتنطّع صوب بناء أفق حداثي لها.