في الجلسة الافتتاحية التي استهلتها كل من المؤرخة ليلى مزيان ونائب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدكتور إبراهيم فدادي، تحدثا عن أهمية التراث ودوره الحيوي في خدمة المجتمع، بعدما باتت المنظومة التراثية تطرح أسئلة راهنة حول علاقتها بالمنظومة الرقمية والطريقة التي بها ستخدم هذه الأخيرة التراث، وتجعله حياً في يوميات الناس. كما لفتت صاحبة كتاب « سلا وقراصنتها » بأن هذه المنظومة التراثية تجاوزت في تجلياتها الأبعاد التاريخيّة والتراثية لتصبح ذات منظومة اقتصادية تساهم في توظيف الناس وخلق فرص شغل جديدة بالنسبة لهم.
ويرى الدكتور إبراهيم فدادي بأنّه لحظة الإعداد لهذا اللقاء الدراسي، تبيّن أنّ الأمر أكبر من ذلك، بحيث إنّ اللقاء يستحقّ أنْ يكون يوماً دراسياً، بحكم أهميته التاريخية ودوره المعرفي في تقديم معرفة مغايرة لما هو موجود. فهذه التحوّلات في نظره، تفرض دخول المؤرّخ إلى مجال التراث ومقارعته بمُختلف مفاهيمه وقضاياه. في حين ذهب الدكتور خالد السرتي، إلى الحديث عن العلاقة التي تربط التاريخ بالتراث والمجتمع المعلوماتي، مُبرزاً عنصر التكامل بين التخصصين والدور الذي لعبته اليونيسكو في حماية التراث الثقافي.
أمّا الجلسة الأولى التي سيرتها الباحثة حياة زروالي، وشارك فيها الدكتور خالد أوعسو بمداخلة حول العلوم الاجتماعية والرقمنة والدكتورة سناء حساب بالتراث الثقافي ومجتمع المعلوميات والمؤرّخة ليلى مزيان في موضوع التاريخ البحري بالمغرب وعلاقة بالرقمنة والباحث محمد العيساوي بدور وسائل التواصل الاجتماعي في تثمين التراث الثقافي بجهة الشرق، ثم الباحثة فاطمة العدام في موضوع فيديوهات الألعاب والطريقة التي تحكي بها التاريخ من خلال تشريح نماذج غربية.
أما الجلسة الثانية، التي سيّرها إبراهيم فدادي، تحت عنوان « رقمنة التراث الثقافي: دراسة حالة »' فقد شارك فيها كل من محمد كبيري علوي ومهدي بنسعيدي ورشيد أرغاربي وعبد الله فيلي ومحمّد أبيهي.
وحسب الورقة التأطيرية للندوة، فقد « أصبحت التقنيات الرقمية والمعلوماتية اللغة الأساسية للتواصل والاتصال في مجتمع القرن الواحد والعشرين، الأمر الذي يجعل العديد من الحكومات تضعها على قائمة الأولويات الوطنية في خطط التنمية. وعلى غرار هذه الدول انخرط المغرب في نفس المسيرة حيث تم إنشاء اللجنة الاستراتيجية لتكنولوجيا المعلوميات والاتصالات سنة 2004 تبعها إطلاق خطط المغرب الرقمي في نشرات متتالية منذ سنة 2013. إذْ يعتبر المغرب التكنولوجيا الرقمية أولوية وطنية في إطار النموذج التنموي الجديد، حيث عهدت الحكومة إلى دائرة التنمية الرقمية سنة 2019 بمهمة اقتراح توجهات استراتيجية لتسريع التحول الرقمي للبلاد ».
ويأتي هذا النشاط لتعزيز سلسلة اللقاءات التي عقدت حول الموضوع على المستويين الوطني والدولي حول دور الرقمنة في الحفاظ على التراث الثقافي وتسهيل الوصول إليه، لعل أهمها منتدى اليونيسكو حول المدن الذكية لسنة 2019 حيث تم تسليط الضوء على دور التقنيات الجديدة في الحفاظ على الأماكن المهددة بالانقراض لتسهيل إنتاج نسخ رقمية من هذه المواقع، مما يضمن نقلها إلى الأجيال القادمة وأيضاً اللقاء الدولي الذي نظمته مؤسسة صون التراث الثقافي للرباط في شهر ماي 2021 والذي استعرضت فيه مجموعة من تجارب رقمنة التراث الثقافي داخلياً وخارجياً.
لقد غدا التراث في الزمن اليوم، يلعب دوراً هامّاً وحيوياً في تنشيط الحياة الاقتصادية للمدن ذات الصبغة الأثرية، لكونه يُساهم في تنشيطها وخلق بنيات وموارد جديدة لها. وبالرغم مما أشاد به المتدخلون حول التحوّلات التي بات يعرفها التراث، فإنّ هذا « البراديغم » ما يزال مُهمّشاً داخل الجامعات المغربيّة، إذْ لا يعثر الطالب في النظام الجديد على مواد ذات علاقة بالتراث الثقافي والسياحة والمتاحف والفنّ الإسلامي وتاريخ المعمار، ما يجعل هذا التراث الثقافي حكراً على شعب الآداب.
فالمؤرّخون المغاربة لم يُقدّموا أيّ مُساهمةٍ جديرة في الموضوع، ليس لأنّهم غير قادرين على تقديم أفق نظري يُساهم في تطوير التراث ويخدم مفاهيمه وقضاياه، بل إنّ منظومة التعليم العالي تتعامل مع التراث، باعتباره تخصصاً لا علاقة له بالتاريخ. مع العلم أنّ المؤرّخ له قدرة كبيرة على تقديم معرفة معاصرة حول التراث اللامادي مثلاً.
ولكنْ أيّ مُؤرّخ؟ قطعاً لا نعني هنا المُؤرّخ الذي يُدرّس المقاومة المسلحة والحركة الوطنية والإصلاح والاستقلال، بل المُؤرّخ العارف بالنظريات والمفاهيم والمُتسلّح بالمعرفة المعاصرة والقادر على كتابة تاريخ جديد للفنّ والصورة والمتخيل والبحر والنظم الاجتماعية والمعمار والسينما والفوتوغرافيا وغيرها من المجالات المعرفية المُهمّشة داخل التاريخ المعاصر، وما تفرضه من سياحة طويلة في تاريخ الفكر البشري ومعرفة دقيقة بالمفاهيم والمعارف والمناهج التي تخدم المؤرّخ، وتجعله مُفكّراً ومُساهماً في تنمية مجتمع، انطلاقاً ممّا يقترحه من أفكار ذات علاقة بالناس وتاريخهم وذاكرتهم.
حين يهتمّ المؤرّخ بالتراث الثقافي، فهو يتعامل معه باعتباره مجرّد أرشيف يقوم بشرحه والكشف عن تاريخه وملامحه، لكنّه غير قادرٍ على الحفر بقوّة في هذا التراث وفهم المعالم الفنّية والجماليّة للمعالم الأثريّة وكتابة أبحاث على شكل مونوغرافيات تُوثّق سيرة اللقى الأثريّة وتضمن لها سيرورتها في حياة الناس ويومياتهم. فوظيفة المؤرّخ مع التراث ينبغي أنْ تتجاوز الطابع التعريفي الذي يُجمل التراث في كونه عبارة عن منظومة ثقافيّة جاهزة تستحقّ التثمين، صوب الانفتاح بشكل أقوى على ما يفرضه التراث من تحوّلات. فكيف يجوز البحث في التراث والاقتصار فقط على المصادر والكتب؟، فهذه المستندات المعرفية لا تُقدّم أيّ شيءٍ للتراث المادي واللامادي منه. بهذه الطريقة يُصبح المؤرّخ مُؤرّخاُ حياً له علاقة بالواقع، وليس شخصاً يعيش ويتكلمّ عن التراث ويعيش في غيبوبة الماضي.
بما أنّ اللقاء له علاقة أساساً بالتاريخ، لم يتمّ ذكر ما إذا كان المؤرّخ اليوم في المغرب مُؤهّلاً للحديث عن منظومة التراث. فنحن نعرف أنّ عددا كبيرا من المؤرخين لهم تكوين تقليدي بسيط، لكونهم لا يسايرون التحوّلات التي تعرفها المنظومة المعرفية المعاصرة فيما يرتبط بها من معرفة ومفاهيم ولغات وتقنيات تكنولوجية أصبحت تفرض وجودها على المؤرّخ. وتُعتبر الرقمنة، أبرز هذه العناصر التي ينبغي الانفتاح عليها بالنسبة للمؤرّخ، لكونها تُقدّم للتراث إمكانات مُذهلة للتوثيق والأرشفة. كما تجعل هذا التراث حياً يراه الناس، وليس منظومة تاريخيّة جامدة مُرتبطة بالأطلال. فالرقمنة تُساهم في الحفاظ على معالم التاريخ وإنجاز خرائط للمواقع الأثرية وصور لمخطوطاتها ونقائشها، وتحفظ بطريقة دقيقة وعلمية هذا التراث الثقافي وتسعى جاهدة إلى التعريف به.
فالصورة تُخلّد التراث وتجعله يستمر في ذاكرة المجتمعات المعاصرة. وبما أنّ الصورة تُعتبر مفتاحاً للزمن الراهن، فإنّها تلعب دوراً كبيراً في تنمية هذا التراث والاشتباك مع قضاياه، سواء عن طريق أرشفته وتثمينه بصرياً أو تحويله إلى مادةٍ بصريّة قادرةٍ على البقاء في المستقبل. بل إنّ التراث اللامادي (الثقافة الشعبية) نفسه، من المُمكن تحويل مادته من قصص وحكايات وأمثال شعبية إلى برامج ومسلسلات تراثية تُحاكي هذا الموروث الشعبي. وهذه الطريقة تُعتبر أفضل الطرق في الحفاظ عل هذا التراث الشعبي المغربي الذي تجهله شريحة كبيرة من المجتمع بسبب تراجع الإقبال على فتنة القراءة وشغف البحث.
ورغم أنّ الندوة لم تنشغل بعلاقة المؤرّخ بمنظومة الديجيتال، بقدر ما اهتمت بعلاقة التاريخ والتراث بالرقمنة، لكنّها مع ذلك كانت كافية لتسليط الضوء على قضية الرقمنة في علاقتها بالتراث. لقد نجح أعضاء المختبر في تقديم رؤية واضحة المعالم والرؤى حول هذه العلاقة وتقديم إشارة ضوئية حول أهمية هذا الموضوع وضرورة الشروع في الانخراط في عوالم الرقمنة، حتّى يبقى هذا التراث الثقافي حياً في ذاكرة الأجيال، وليس « مقبرة » نزورها كلّما أحسسنا بالخوف تجاه الماضي أو المستقبل.