حين يُفكّر المرء فيما آلت إليه الجامعة اليوم، يشعر بنوعٍ من الألم ممّا أصاب هذا الفضاء الذي ظلّ لسنواتٍ طويلة مختبراً للمعرفة. بات المثقفون يعرفون بأنّ الجامعة أصبحت اليوم تعيش على ماضي الثقافة، فبدل أنْ يكون هذا الفضاء أفقاً للتفكير المُستمرّ في بعض الإشكالات والقضايا التي ألمّت بالمجتمع، تُصبح فيه الجامعة مكاناً للراحة. وكأنّ هذه المؤسّسة التعليمية تنحصر في تلقين المعرفة وليس التفكير في إنتاجها. أغلب من يُطرح عليه السؤال حول عدم تأليفه لأيّ كتاب، على الرغم من تواجده لأكثر من 20 سنة داخل الجامعة، يكون جوابه مُتعلّقاً بعدم توفّر الدعم وقلّة الموارد التي قد تُشجّع الباحثين على التفكير.
جوابٌ كهذا أسمعه يومياً من أصدقاء يُدرّسون في الجامعة. أستغرب أنّه رغم الإمكانات التي يحظى به البلد اليوم، ما يزال الناس تُبرّر غياب البحث العلمي بقلّة الموارد، رغم أنّ هناك باحثين ومفكّرين في مجالات ذات صلة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، استطاعوا التفكير والتأليف والوصول بُعدٍ كوني لم يحلموا به يوماً. لو توقّف المرء عند مثل هذه الأفكار، لم نكُن سنعرف مؤرّخاً أصيلاً مثل عبد الله العروي، ولا مفكّراً كبيراً مثل عبد الكبير الخطيبي، بل كُنّا سنجد أنفسها في بلدٍ يعجّ بالتفاهات.
يفتخر المرء بوجود مثل الأسماء الشامخة التي جعلت الجامعة المغربيّة تصل إلى مراتب مُتقدّمة في مجال التأليف وإنتاج الأفكار. بعدما ظلّت أفكار العروي والخطيبي والجابري وسبيلا والحبابي، تشغل وجدان المثقفين وتدعوهم إلى انخراط فعليّ في قضايا الثقافة الوطنية. فكانت الجامعة ابتداء من نهاية السبعينيات، بمثابة مختبر علمي لإنتاج النظريات والمفاهيم والأفكار الكبرى التي تخدم يوميات الناس، وتجعلها تتطلّع صوب تحرير فكرها من براثن التقليد والانحطاط. بل إنّ الطلبة الذين كانوا يدرسون الأدب والفلسفة، كانوا معروفون فيما بينهم، لأنّ أغلبهم أصدر عملاً شعرياً أو مجموعة قصصية أو نصّاً روائياً.
إذْ يعثر القارئ على أسماء أدبية كثيرة أصدت عملها الأدبي الأوّل، وهي في مرحلة التعلّم داخل الجامعة. ولم يكُن الأساتذة يعتبرون أنفسهم « آلهة » لأنّهم كانوا يُؤمنون بقوّة أنّ تقريب العلاقة بين الأستاذ والطالب يخدم العملية التعليمية التعلّمية ويجعلها ذا قيمة مضافة. ونعثر في تاريخ الثقافة المغربية على الكثير من الصداقات بين الأساتذة والطلبة التي تحوّلت فيها بعد إلى سندٍ فكريّ قويّ كما هو الحال لعبد الله العروي مع عبد المجيد القدوري ومحمد عابد الجابري مع عبد الإله بلقزيز ومحمد سبيلا مع محمّد الشيخ والمختار بن عبداللاوي المفكّر السوري الطيّب التيزيني.
لم يعُد للجامعة أيّ مذهب، لم تعُد تقوى على إنتاج النخبة. فالأعداد الغفيرة التي تتخرّج كلّ سنة غير قادرة على التفكير خارج مدارات اليوميّ. كما أنّ الباحثين وبحكم التخصّص الضيّق الذي يُقوقعون أنفسهم داخله، أصبحوا مثل كائنات لا تُفكّر خارج جسدها. كلّ ذا في وقتٍ ما تزال فئةٍ قليلة تمتلك الضمير، إذْ تُحاول رغم هشاشة الأوضاع وأفول العلم كشرطٍ للنجاح، أنْ تُوازي بين التدريس وتأليف الكُتب وتقديم المحاضرات والمشاركة في الندوات وتشجيع الطلبة على البحث العلمي. فهذه الأسماء تعمل اليوم بقوّة على تشجيع الأجيال الجديدة وتقدم المُساعدة لها من زاوية التوجيه والمصادر والمراجع وتعلّم مبادئ التفكير وغيرها من الأمور المنهجية التي يكون الباحث في حاجةٍ إليه قبل الشروع في التفكير.