خلال عرض فيلمٍ وثائقي مُمتع داخل مهرجان سينمائي، شعر مخرج إفريقي بخيبة أمل داخل القاعة، بعدما لاحظ مظاهر عدم انتباه الناس، وهم يتحدّثون داخل القاعة بصوتٍ مُرتفعٍ. كُنت جالساً وراءه مباشرة، أنظر إليه من الخلف، وهو مرتعب وملتاعٌ. أدقّق النّظر في الطريقة التي ينظر بها إلى أهل السينما في المغرب وسط الظلام. شعوري بالخيبة كان أكبر منه، وأحسست برغبةٍ قويّة في الصراخ، إذْ كيف يجوز الدردشة داخل قاعة مغلقة وفي حضرة فيلم يُقدّم للناس عصارة آلام الفلاحين في الكونغو، عبر مجموعة من القصص المتناثرة التي تُشكّل وحدة موضوعية بصريّة للفيلم.
هذا الأمر، جعله مراراً يلتفت ويتحدّث إليّ بفرنسية وإلى أشخاص آخرين بجانبي، طلب منهم بنبرةٍ حادّة إغلاق هواتفهم الذكية. وبينما كانت شخصيات الفيلم الوثائقي تُكافح لإيصال البضائع التجارية في مناطق إفريقية قاحلة من أجل كسرة خبزٍ لأبنائهم، كان طلبة معاهد ومدارس السينما يتحدّثون عن أمورٍ اجتماعية تافهة. بل لم يشعر هؤلاء الطلبة بأيّ حزن أو ألمٍ أو خيبة تجاه ما يُشاهدونه. ورغم أنّ المخرج دعاهم إلى الصمت والتوقّف عن اللعب بالهواتف وإغلاقها بشكلٍ نهائي، ظلوا إلى جانبي يتحدّثون ويثرثرون ويضحكون وهم يستخفون بالمخرج وطريقة غضبه من الناس.
أغلب الظنّ أنّ هذا المخرج، سيمكث مدة لا تزيد عن أسبوع في المغرب ويرحل بعيداً مع فيلمه وشخصياته التراجيدية إلى باريس وروما وأستراليا واليابان وغيرها، وصوب مهرجانات عالمية أخرى وإلى جماهير أوسع تعرف ما معنى السينما والألم والمعاناة التي يشعر بها الناس داخل مدن وقرى إفريقية. ماذا سنفعل نحن النقاد والكُتاب الذين نعمل على توجيه الناس ودعوتهم إلى عشق الجمال والسينما والمراهنة عليها، باعتبارها وسيطاً بصرياً يُقرّبنا من تحقيق نمط عيشِ مُختلف يُوفّر لنا شروط الحداثة ومَباهجها؟ كيف يجوز الكتابة اليوم داخل ثقافة لا تعرف إلاّ التهريج والثرثرة، ولا تفطن إلى ماضيها وما ينبغي أنْ يكون عليه مستقبلها، بل ولا تدري حتّى دورها الحيويّ في تنمية المجتمع؟
أشعر من حينٍ إلى آخر، أنّ الكتابة في مثل هذه الحالات المتشظية الغارقة في جهل المجتمع وفداحته، كأنّي أرمي رصيدي في الوحل. كتاباتٌ لا تخلق المُتعة المفروضة بالنسبة للكاتب تجاه الواقع، بل تدفعني في حالاتٍ كثيرة إلى جنونٍ مُعذّب يقودني إلى الصمت.
ينظر المغاربة إلى السينما، بوصفها أداة للترفيه ووسيطاً يخلق المتعة والتسلية للناس، حتّى تُخرجهم من لحظات الضيق التي يشعرون بها تجاه واقعهم. فهذه النّظرة تُنمّط الذوق العام وتجعله سطحياً غير قادرٍ على تكوين ثقافة جماليّة تُساعد الناس على عيش حياة كريمة داخل أوطانهم. فهذه اللامبالاة تجاه السينما ومُتخيّلها نابعة بشكلٍ أساس من ثقافة الترفيه التي كرّستها الأفلام المغربيّة منذ نهاية التسعينيات.
كما أنّ غياب الشغف بالمتخيل الرمزي وأهميته داخل الحياة اليوميّة، يُغذّي لدى الناس فكرة هامشية الفنّ الملتزم في حياتهم. فالتلفزيون لعب دوراً سيئاً في تربية الناس على قيم الجمال، استدرجهم صوب المسلسلات والسيتكومات والأفلام التلفزيونية، التي لا تزيد المرء إلاّ جهلاً.
لم ينتبه الطلبة للفيلم، لأنّهم وجدوا هشاشة فنية في صُوَره، بل لكونهم يفتقرون إلى ثقافة صلبة وحقيقية لن تُؤهّلهم حتّى على معرفة المنطلقات الأولى لصناعة الفيلم الوثائقي، وبالتالي، كيف يُمكن فهم فيلم وثائقي يُكسّر البنيات الفوقية وينتقد مفاهيم الاستعمار المترسّبة في بنية المجتمع؟
لم نصنع طلبة لهم شغفٌ بالغناء والسينما والرقص والموسيقي، بل عملت المؤسّسات الثقافية على تقديم وجبات دائمة منتهية الصلاحية وقادرة ليس على تسميم أجسادهم لفترة وجيزة، بل سينتج عن هذا التسمم أمراض أخرى، كما وقع ذلك البارحة داخل صالة السينما.
مرحبا بكم في فضاء التعليق
نريد مساحة للنقاش والتبادل والحوار. من أجل تحسين جودة التبادلات بموجب مقالاتنا، بالإضافة إلى تجربة مساهمتك، ندعوك لمراجعة قواعد الاستخدام الخاصة بنا.
اقرأ ميثاقنا